عندما تحاصرنا أميركا
دأب معسكر الممانعة في لبنان، طيلة الفترة الماضية، على ترديد لازمة أن الغرب، وتحديداً أميركا، يحاصر لبنان. يستحضر هذا المعسكر كل ما في جعبته من عباراتٍ حفظها عن ظهر قلب، ويحاول إسقاطها على المشهد اللبناني وأزماته، من نقص المشتقات النفطية والدواء والخبز وحليب الأطفال، ناهيك عن الأزمة السياسية وتعثر تشكيل حكومة جديدة بعد أكثر من عام على انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/ آب 2020. ولهواة نظريات المؤامرة، هذا الخطاب عن حصار "الشيطان الأكبر" لبنان مريح. يجعل لبنانيين كثيرين يتخفّفون من عبء الأسئلة البديهية حول ما يجري في لبنان وحقيقة من يقتل الشعب يومياً.
على مدى قرابة عامين من عمر الأزمة، لم يصدر أي قرار خارجي بمنع إدخال أي سلعةٍ إلى لبنان، لا بنزين ولا مازوت، ولا طحين ولا حبة دواء واحدة. بل على العكس، يمكن من خلال مراجعة الأرقام ملاحظة أن فاتورة استيراد المواد الأساسية ارتفعت. لكن أي تذهب؟
التهريب إلى سورية، تحديداً البنزين والمازوت، أمر حتميٌّ لا يمكن لأحد إنكاره، تماماً مثلما لا يمكن تصديق أن "بعض الشخصيات العليا في سورية طلبت من حزب الله المساعدة في وقف عمليات التهريب من لبنان إلى سورية، لأنها تضر بخطتها الاقتصادية وبرنامجها الإصلاحي" كما قال الأمين العام للحزب، حسن نصر الله.
لكن هل يكفي التهريب لاختفاء هذه المواد من السوق اللبنانية؟ تكشف عمليات المصادرة التي قرّرت الأجهزة الأمنية أن تقوم بها فجأة أن جزءاً لا يستهان به من هذه المشتقات النفطية مخبأ تحت الأرض، بانتظار رفع الدعم نهائياً لتحقيق أرباح خيالية، لأن التهريب إلى سورية بعد ذلك لن يكون مجدياً من الناحية المادية، خصوصاً في حال تساوى السعر في البلدين.
الأمر نفسه بالنسبة للدواء. يسأل الصيدلي الأول عن الدواء فيجيب إنه غير متوفر، ثم تتردّد شكاوى عديدة عن تخزينه في المستودعات، أو تهريبه إلى العراق وحصول المصدرين على ثمنه بالـ"فريش دولار". صيدلي آخر سيكرر الكلام نفسه، ثم يتوقف قليلاً ليتأكد من خلو المكان، ويعلن بوقاحة أنه يستطيع تأمين الدواء لكن بسعر السوق السوداء.
هكذا إذاً يبدو الحصار الأميركي. إنه نوع جديد. تسمح أميركا للدولة اللبنانية والشركات باستيراد ما تريد وإدخال جميع المتطلبات إلى الأراضي اللبنانية، لكنها بعد ذلك تقنع مجموعات من المستوردين والتجار والصيادلة بإخفاء بضائعهم تحت الأرض أو في المستودعات، وبيعها في السوق السوداء وتهريبها. وفوق ذلك كله، توفر لهم أميركا بنفسها الغطاء اللازم للمضي في حصار اللبنانيين وإذلالهم .. عن طريق المسؤولين السياسيين والأمنيين الذين يصدف أنهم شركاء للمستوردين، وأنّ منهم من يجاهرون بانتمائهم إلى محور الممانعة نفسه.
أعادت المداهمات الاستعراضية في الأيام الأخيرة في لبنان التأكيد على حقيقة أمرين: الأول أن لا حصار ولا من يحزنون، بل مجرد شراكات بين سياسيين ومستوردين وتجار، اتفقوا على تدفيع اللبنانيين ثمن الأزمة بدل المرّة عشرات المرّات، وأن هؤلاء ينتمون إلى مختلف الأحزاب السياسية من دون أي استثناء. الثاني أن لا إرادة حقيقية بمعالجة الأزمة. لا يمكن لأحد إقناع اللبنانيين أنه بين ليلة وضحاها أصبح هناك لائحة كاملة لدى الأجهزة الأمنية بمستودعات تخزين الأدوية والمازوت والبنزين، وأنها قرّرت التحرك مباشرة بعد صمت ممتد أكثر من عام.
أما الخلاصة الثابتة فهي تلك المتعلقة بأساليب حكم السياسيين اللبنانيين الذين مهما اختلفوا على حصص السرقات يتفقون فقط على استمرار النهب وضمان عدم تعرّض أي منهم أو من أزلامهم للمساءلة.