عندما تلتقي مصالح "طالبان" وأميركا
لا يفترض أن تكون مجريات الأحداث في أفغانستان مفاجأة. ما يحدث في هذا البلد أخيراً من تزايد لهجمات حركة طالبان، وسيطرتها المتسارعة على مناطق عديدة، وعجز القوات الأفغانية عن صدّها أكثر من متوقع. قبل عقدين، حرّكت أميركا جحافل قواتها لغزو أفغانستان، مدفوعة برغبة عارمة بالثأر لتفجيرات "11 سبتمبر" (2001). كان المجمع العسكري والسياسي الأميركي على درايةٍ كاملةٍ بواقع هذا البلد وتعقيداته. ولم تكن تجربة الغزو السوفييتي الفاشلة غائبةً عنه، لكن الحسابات في ذلك الحين حسمت قرار الغزو، وتم تنحية موضوع النتائج سنوات لاحقة.
تحقق لواشنطن، في الأشهر الأولى من احتلالها أفغانستان، ما تريد بسقوط حكم "طالبان"، وتنصيب هيئة حكم جديدة، لكن الحركة لم تنته. استطاعت إعادة تنظيم صفوفها، وتوجيه الضربات الواحدة تلو الأخرى، وعاماً بعد آخر، للقوات الأفغانية والأميركية وباقي قوات حلف شمال الأطلسي. نجحت الحركة في تنفيذ مخططها على مدى 20 عاماً، ولم تمنح البلاد فرصة للاستقرار، ولم يُثنها عن ذلك وجود 150 ألف جندي أجنبي. حتى أنها أفشلت المحاولة الأميركية الأولى للانسحاب الأميركي في 2014، بعدما أيقنت واشنطن أن من هيّأتهم للحلول مكان "طالبان" والمؤسسات الأمنية التي دعمتها بالأموال والسلاح ودرّبتها عاجزةٌ عن صد الحركة. والحديث هنا يطول عن سبب ذلك، وحجم مسؤولية مختلف الأطراف المحلية جرّاء خلافاتها السياسية ونزعاتها الإقصائية، فضلاً عن فسادها وعجز عديد منها عن الخروج من أدوار أمراء الحرب، والبحث عن المغانم عند كل مفترق أو استحقاق.
بالنسبة لـ"طالبان"، وفي المفاضلة بين المهم والأهم، لم تكن تستعجل محاولة العودة إلى حكم أفغانستان. كان يكفي أن تمنع الحكومة المركزية من بسط هيمنتها على كامل البلاد، وأن تحتفظ لنفسها بكل ما تستطيع من مناطق تشكّل قواعد خلفية لها. وطوال 20 عاماً، لم تغب الحركة يوماً عن المشهد الميداني، فكانت تضرب متى ما شاءت، وتتلقى الضربات من دون أن يترك ذلك أثراً كبيراً عليها، فتعويض المقاتلين أسهل ما يكون، طالما أنها متماسكة كحركة.
وعندما حانت اللحظة التي اعترفت فيها الولايات المتحدة بأنها غرقت في مستنقعٍ لا خيار أمامها سوى الخروج منه نهائياً، بعدما أنفقت أكثر من 800 مليار دولار بلا جدوى، انتقلت الحركة إلى طاولة المفاوضات معها من موقع قوة. فاوضت على الانسحاب الأميركي الذي هو مصلحة مشتركة لها ولواشنطن. ومنذ مجيء جو بايدن إلى البيت الأبيض، وتيقنها أنه لن يعود عن قرار سلفه دونالد ترامب، بدأت الحركة مرحلة جديدة، عنوانها "سنفعل ما نريد وستكتفون بالمشاهدة". وليس المقصود هنا السلطات الأفغانية فقط، والتي أعلنت أن الحركة تنفذ أعنف الهجمات في الأسابيع الأخيرة، بل أيضاً الولايات المتحدة.
مراجعة سريعة للتقارير الأميركية العسكرية، وتلك التي سرّبتها الصحف الأميركية في الأشهر الأخيرة، كفيلةٌ بالتوصل إلى خلاصة بأن ما ينتظر أفغانستان لم يعد أولوية واشنطن، حتى لو كان عودة الحرب الأهلية، كما اجتمعت الاستنتاجات الأميركية والروسية في الأيام الماضية، أو انهيار الحكومة المركزية خلال أشهر، فكل ما يجري وسيحدث شأن أفغاني داخلي. بالنسبة لواشنطن، ما يهمّها أنها لم تشهد زيادة في الهجمات ضد قواتها منذ فبراير/ شباط 2020، وفي الترجمة البراغماتية لهذا التصريح مغزاه: طالما أن "طالبان" تكتفي بقتل أفغان فلا مشكلة لدينا معها. المهم أن لا تقترب من جنودنا، وتعطينا سبباً للعودة عن قرار إتمام الانسحاب.