عن بناء الشرعية في العراق
على الرغم من صعوبة المراوغة على حقيقة أن حدث تموز (يوليو) 1958 في العراق كان انقلاباً، إلا أن هناك وجهة نظر تبدو وجيهة، تتحدّث عن "بناء الشرعية" التي قامت بها سلطة الضباط، من خلال إجراءاتٍ يكشف البحث اللاحق عنها أنها كانت على طاولة حكومات العهد الملكي، وخصوصاً التي خرجت من "مجلس الإعمار"، ومنها بناء أحياء حديثة للمهاجرين إلى بغداد، والذين كانوا يقيمون في صرائف وبيوت صفيح بائسة منتشرة بين الأحياء الكبرى في العاصمة.
قراراتٌ وأعمالٌ كثيرة قامت بها حكومة عبد الكريم قاسم عزّزت من شرعية سلطته في عيون الطبقات المسحوقة، وبعض النخب الطليعية اليسارية، من دون أن يدقّق هؤلاء بشيءٍ اسمُه "المصلحة الوطنية"، وهل تشمل نعمة النظام كلّ أبناء الوطن أم فئاتٍ دون أخرى.
أسقطت خلال ذلك، واستمراراً مع الانقلابات اللاحقة، شرعية الصندوق الانتخابي، والعودة إلى صوت المواطن ورأيه بالنظام السياسي من خلال آلية مؤسّسية منتظمة، كما في أي نظام ديمقراطي، وجرى الاعتماد حصراً على شرعيةٍ تبنى لاحقاً (بعد الانقلاب) من خلال المكارم والأعطيات والقرارات ذات البعد الشعبوي.
وعلى الرغم من أن الآلية الانتخابية وبناء السلطة التنفيذية بالوسائل الديمقراطية وأخذ رأي الشعب باقتراع مباشر، كانت دون المستوى المقبول في العهد الملكي، إلا أن هذه الآلية، في مجتمعٍ شبه ريفي، ويضرب التخلف في أطنابه، كانت تتطوّر بالتدريج، حسب رأي حنّا بطاطو، والذي يرى مثلاً، أن الانتخابات التي جرت في يونيو/ حزيران 1954 كانت متقدّمة جداً، واثبتت أن الزمن كان كفيلاً بتطوير النظام الديمقراطي في العراق.
كذلك يرى الباحث إيريك ديفيس أن هذه الانتخابات بيّنت قدرة الفئات الحضرية على تنظيم صفوفها لمواجهة سلطة القمع التي كان يمثلها نوري السعيد وحزبه الدستوري، وأنها استطاعت بناء جبهةٍ وطنيةٍ معارضةٍ حرمت السعيد من الأغلبية في البرلمان. وهذه كلّها تثبت قدرة الآلية الديمقراطية على تكوين شرعية مستندة إلى إرادة الشعب، تتحدّى أصحاب النفوذ والسلطة ومصالحهم الضيّقة.
كانت فترة السبعينيات، مثلاً، وهي فترة الفورة النفطية، وزيادة الأموال من صادرات النفط في خزينة العراق، هي الفترة الذهبية لصدّام حسين، الذي استطاع تسخير هذه الأموال، من موقعه نائبا للرئيس، في تطوير البنى التحتية في العراق، وإيصال خدمات الماء والكهرباء حتى إلى القرى النائية في الأهوار، والتركيز على حملة محو الأمية، وتطوير الصناعات المدنية والعسكرية. وعلى الرغم من أن صدّام وأحمد حسن البكر وكل نظام "البعث" لم يصلوا إلى السلطة من خلال رأي الشعب، وإنما جاءوا بانقلاب عسكري مثل من سبقهم، إلا أن هذه الأعمال الواسعة في شرق البلاد وعرضها وجنوبها وشمالها بنت شرعية القبول في أعين الغالبية من الشعب العراقي. ولكن هذه الشرعية سرعان ما تداعت، بسبب آثار الحرب العراقية الايرانية، ثم انهارت تماماً مع غزو الكويت، ثم حرب عاصفة الصحراء العنيفة التي حطّمت كل شيء في العراق، ومنها شرعية نظام صدّام، فثار جزءٌ كبير من الشعب العراقي ضدّه.
تبدو مسألة الشرعية اليوم مصدر قلق للتيارات الحاكمة في العراق، فالإقبال على الانتخابات، وفكرة أن الانتخابات هي مصدر التغيير، هو في أدنى مستوياته، وكان الإقبال على انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2021 هو الأدنى منذ 2003، فلم تتجاوز نسبة المصوّتين 20%، بسبب أن التيارات السياسية المسيطرة، وكلّها تملك أجنحةً مسلحة، فضّلت أن تصفّي معارضيها في الشوارع والأزقة وتغيّبهم وتهجّرهم، بدل الاحتكام معهم إلى صندوق الاقتراع. كما أن التحدّيات المالية والاقتصادية والتوازنات الإقليمية لن تترك هامشاً واسعاً لبناء شرعية "بعدية" من خلال الإعمار والخدمات وتنشيط الاقتصاد، على الأقل في عمر حكومة واحدة.
التحدّي الأكبر أن تتنبه هذه النخب السياسية المسيطرة إلى المخاطر المحدقة بها، وتصارح شعبها وتحاول بناء ثقة طويلة الأمد معه، وإلا فإن مخزون الشرعية سيتناقص، وتنخفض نسبة المصوّتين في أي انتخابات قادمة إلى أقل من 20%.