عودة السحر، لماذا؟
خلال ولاية الرئيس، دونالد ترامب، نشرت كاتبة أميركية، تدعى ديانا فاغمان، مقالة في صحيفة "لوس أنجليس تايمز" بعنوان "لماذا ألقيتُ تعويذة ضد ترامب" وفيها ذكرت أنها ليست الوحيدة التي فعلت، وأن هناك آلاف الساحرات والسحرة في العالم يتكاتفون ضدّه عندما يبدأ القمر نقصانه، لا بهدف إيذائه، وإنما من أجل منعه من الإمعان في سياساته والعمل على إفشالها. الأعمال السحرية المماثلة، على ما تضيف الكاتبة، تعود إلى أزمنةٍ غابرة، وقد كانت تُستعمل في مصر القديمة، وفي اليونان وروما، وسواها من حضاراتٍ قديمة أخرى، بهدف منع الأذية لا التسبّب بها.
أجل، السحر يعود إلى الحياة في القرن الواحد والعشرين من بوّابة واسعة، إذ يستهوي أجيالاً كاملة من الأطفال والأولاد والكبار، متمثّلا في منتجاتٍ ثقافيةٍ تطاول معظم المجالات، من التلفزيون، إلى السينما، إلى الأدب. وليس النجاح الأسطوريّ لكتبٍ مثل سلسلة "هاري بوتر"، أو "سيد الخواتم"، ومسلسلات تلفزيونية مثل "لعبة العروش"، أو "مسحور"، وسواها من الألعاب الخيالية والأسطورية التي تجتاح عالمنا اليوم، سوى دليلٍ على استيقاظ الميثولوجيات القديمة وعودة السحرة إلى عالمنا، ممهورين، هذه المرّة، بمقدّرات وتقنيات وإمكانات أين منها ما كانوا عليه سابقاً.
والسحر إذ يعود عودتَه الظافرة تلك، لا بدّ من أن يستدعي أسئلةً ودراساتٍ وبحوثاً عن أسباب انبعاثه في عالم دفن الآلهة منذ زمن، وبات لا يؤمن إلّا بالعقل والعلم والحقائق والأرقام، ولا يصدّق إلّا إذا أدخل إصبعه وتحقّق، وقلّب الصورة الشاهِدة، الصورة - الإثبات، في كل أبعادها. هكذا تشهد المجتمعات الغربية المتقدّمة، مثلها مثل المجتمعات المهمّشة والفقيرة التي ما زالت تؤمن بالشعوذة، انبعاث السّحر في أشكالٍ متعدّدة: توقعات فلكية، تنجيم وقراءة كفّ، طبّ موازٍ، أحجار وتعاويذ وأغراض تجلب الحظ وتحمي من العين الحاسدة وتطرد الشرّ، إلخ.
لقد طوّرت العلومُ الإنسانية مفهوم "نزع السحر عن العالم" بفعل العقلنة الثقافية التي أنتجتها الحداثة، وهو ما أدّى، برأي الفيلسوف الإيراني داريوش شايغان، إلى خيبة أملٍ وفراغٍ روحي كبير، تلى غياب النظرة الروحانية إلى العالم وإسقاط الرموز التي كانت تُعتمد في تفسير الأحداث الغامضة في العصور القديمة. هذا لا يعني أن البشر توقّفوا عن الإيمان بالآلهة وبوجود أرواح شريرة وخيرة، أو عن تصديق الخرافات والأساطير، بقدر ما يعني أن الصورة القديمة للعالم اهتزّت كلّية بعدما أصبح العلمُ المرجع التفسيريّ الوحيد لكلّ ما هو غامض.
وبالعودة إلى انبعاث السحر في عالمنا الحديث، لا بدّ من الإشارة إلى البُعد النسويّ الذي اكتسبته الساحرات الشرّيرات اللواتي عانين الأمرّيْن في أوروبا خلال عصر النهضة، وبالتحديد بين القرنين، الخامس عشر والسابع عشر، إذ كان يُصار إلى اضطهادهنّ وتعذيبهنّ وصولاً إلى قتلهن رجماً وحرقاً. لقد برزت في الآونة الأخيرة دراسات تتناول هويات تلك النساء، خالصةً إلى القول إنّهن كنّ، في أغلبيتهن، نساء مستقلّات يعشن وحيدات، أو أنّهن لم ينجبن، أو أنّهن كنّ مسنّات. وهذه، برأي الباحثة الفرنسية، منى شولليه، مؤلفة كتاب "ساحرات: سلطة النساء التي تقهر" (2018) الشهير، الأسباب الحقيقية لرفضهن من مجتمعاٍت بطريركية كانت وما زالت تخشى قوة أولئك النساء، وتعتبرها خطراً على المجتمع. لقد أعيد الاعتبار إلى صورة "الساحرة الشريرة" التي سيطرت على الذهنيات وقتاً طويلاً، من الحركات النسوية في العالم، وذلك بدءاً من سبعينيات القرن الماضي، وقد بدأت المرأة تعي تأثيرها المخرّب حيال النظام الأبويّ المناهض للمرأة. لذا استخدمت شولليه هذا الرمز لتشير إلى ما يستمرّ قائماً في أيامنا هذه. فهناك النماذج الأربعة للمرأة التي ما زالت، كما في الأمس، تقضّ مضاجع المجتمع الذكوري: أن تكون امرأة مستقلة اقتصادياً، ألّا ترغب في الإنجاب وهو ما يُنظر إليه سلباً، أن تتقدّم في العمر، أي أن تفقد شبابها/ جمالها، وتتوقف عن الإنجاب، فينتفي سبب وجودها، وأن يُعتبر الاعتداء على الطبيعة رديف الاعتداء عليها.