عودة نوري المالكي
في يوم واحد، وخلال الجلسة البرلمانية لانتخاب رئيس جمهورية العراق، بدا كأنّ الأزمة السياسية المستعصية والمحتدمة منذ أكثر من عام، عقب الانتخابات "المبكّرة"، قد وصلت إلى حالة من الحسم، وبدت وجوه قوى "الإطار الشيعي"، الفريق المنتصر في هذه الجولة، مستبشرةً، فما هي إلّا ساعات بعد انتخاب عبد اللطيف رشيد رئيساً للجمهورية، حتى كلّف هذا الأخير محمد شياع السوداني، مرشّح قوى الإطار، لمنصب رئيس الوزراء. وحتى الساعة، تقول كلّ الإشارات إنّ الطريق سيكون سالكاً أمام السوداني لاستكمال كابينته الوزارية وإقرارها بالتصويت داخل البرلمان، حتى قبل أن يُكمل الشهر، وهي مدّة الحدّ الأقصى لرئيس الوزراء المكلّف لاستكمال كابينته الحكومية وإقرارها.
في حال مضت الأمور من دون مفاجآت، سيكون إقرار حكومة السوداني حدثاً فاصلاً، يؤذن بمزاج جديد في العمل السياسي العراقي، ساهم مقتدى الصدر بفرضه على اللاعبين السياسيين. فعلى خلاف المزاج المنتشي لأقطاب "الإطار التنسيقي الشيعي" وأنصاره، وشعورهم أنّهم انتصروا على الصدر وأرغموه على الاستسلام، فإنّ ما يتحقّق اليوم هو مطالب الصدر بافتراق الساحة السياسية إلى سلطة ومعارضة. وكلّ الهدايا الثمينة التي يبدو أن الصدر قدّمها للإطار حتى يشكّل الحكومة، سيسترد ثمنها مضاعفاً في وقتٍ لاحق.
هناك من يقول في الكواليس إنّ السوداني سيقوم خلال الأيام المقبلة بعدّة تحرّكات على الصدر، من أجل إقناعه بأخذ حصّةٍ من مقاعد الكتل الشيعية في الحكومة المقبلة، ولكن مسار الأحداث يشير إلى أنّ الصدر لن يغيّر موقفه، كما أنّه هدّد، من خلال حساباتٍ مقرّبة على مواقع التواصل، بالتبرّؤ من أيّ صدريٍّ يشترك في حكومة السوداني.
كانت اللقمة كبيرة ومستحقّة تلك التي كان سيتناولها الصدر على مائدة التحالف الثلاثي "تحالف إنقاذ وطن" الذي شكّله مع الحزب الديمقراطي الكردستاني وتحالف السيادة، في مارس/ آذار الماضي، وبعد نجاح "الإطار التنسيقي" في تفكيك هذا التحالف وإفشال كلّ محاولات الصدر لتشكيل حكومة، فإنّ الفشل الأكبر للصدر ليس جلوسه في منزله مقاطعاً العملية السياسية، وإنّما أن يتراجع عن "اللقمة الكبيرة" ليرضى بالفُتات! على مائدة تحالف "إدارة الدولة" الذي يقوده صقور الإطار التنسيقي، وتحديداً نوري المالكي وقيس الخزعلي.
يعرف الصدر تماماً أنّ التحدّيات أمام حكومة السوداني المستقبلية ليست هيّنة، وأنّه أقرب إلى الفشل منه إلى النجاح في محاولة تخفيف الغضب الشعبي تجاه العملية السياسية برمّتها، والشعور العام بالإحباط واليأس، وهو ما يتّضح على مواقع التواصل من ردود فعل فاترة أو ساخرة على تولي السوداني رئاسة الوزراء. فالمزاج الشعبي الرافض للسوداني، والذي نجح في منع توليه رئاسة الوزراء خلفاً لعادل عبد المهدي في احتجاجات تشرين 2019 لم يتغيّر، فالرفض مستمرٌّ، لكنّ نوع الانفعال المرتبط بهذا الرفض تغيّر، فقد كان غضباً وتحوّل الآن إلى إحباط وإرهاق ويأس.
سبب الرفضين الشعبيين، التشريني والصدري أيضاً، هو اليقين بأن السوداني ليس سوى قناع لعودة نوري المالكي إلى الواجهة، وما يعزّزه هو الحديث عن عزم رئيس الجمهورية عبد اللطيف رشيد على استعادة منصبي نائبي رئيس الجمهورية، وسيكون واحد منهما، ومن دون أدنى شكّ، من حصّة المالكي.
في المجمل، ليس المشهد الحالي أقلّ من عودة مظفّرة للمالكي، من كل أبواب اللعبة السياسية، فعبد اللطيف رشيد نفسه هو صديق قديم للمالكي، والسوداني هو من فريق المالكي، ولا تشير المعلومات المتوفّرة إلى أنه سيعارض سيّده وصانعه السياسي.
إنّها بطاقة عودة نادرة وثمينة، ولم يكن يتوقعها أحدٌ لرجل يوصف بأنه المتسبب في انهيار المؤسّسة العسكرية أمام الغزو الداعشي لثلث العراق، والمسؤول عن ضياع مليارات من أموال النفط، والذي قاد منهجاً طائفياً إقصائياً تسبب في الخراب الذي يعيشه البلد اليوم. والراعي الأكبر للمليشيات التي تعيث في الأرض فساداً. وهناك مراقبون ومعلّقون كثيرون يحمّلون الصدر مسؤولية هذه العودة غير المتوقعة للمالكي إلى الواجهة.
لكن، سيحتاج المالكي إلى تغيير عقليته بالكامل، وأن يغدو "المضادّ للمالكي" حتى يستطيع أن يستجيب بشكل إيجابي وفعّال للتحدّيات الموجودة اليوم. وربما ليقين الصدر بأن المالكي (من خلال واجهاته المتعدّدة ومنها واجهة السوداني) سيفشل في هذا التحدّي، فإنه ( الصدر) يضع كل رهاناته على هذا الفشل، في تحشيد زخم أكبر لجولة مقبلة، ربما بعد إقرار موعد الانتخابات المبكّرة الجديدة، تنهي المستقبل السياسي للمالكي وفريقه بشكل حاسم لا رجعة فيه.