في عينيك عنواني
نأسف حين نكتشف أن الصّورة التي كوّناها عن شخصٍ أفضل بكثير من الأصل. فنتمسكُ بالصّورة إلى آخر لحظة، كأنّ الأصل سيصبح يومًا مثل الصّورة، أو يأخذ منها بعض الصّفات.. لكننا في النّهاية لا نحصد إلا خيبة الأمل.
في صغرنا، كانت الأشياء، أو معظمها، تتوزع بين الأبيض والأسود، ونستغرب لم لا ينتبه الكبار إلى ذلك، ولم تَتَملّكهم الحيرة وكلّ شيء واضح جدّا، ولا مجال للحيرة أو الخطإ. لم نكن نعرف أنّ الكبار يُصابون بالعمى الجزئي، فيختارون بأعينٍ يملأها الضّباب أشياءً لا يدركون حقيقتها إلّا بعد فوات الأوان، بعد فتحِ العلبة غير القابلة لإعادة التّغليف، ولا لإعادتها إلى رفّها في متجر الحياة التي لا تسير وفق مبدإ القابلية للاسترجاع.
كنا نرى الحياةَ مثل قصّةٍ حالمة، ثم فجأة تصبح علبةَ خياراتٍ كبيرة؛ كلّ خطوة خيار، لا وقت للتّفكير، ولا إضاءة كافية للرُّؤية والأشياء رمادية، رمادية بالكامل، والعقول متعبةٌ من ماراثون الخيارات.. ويُصبح السّرد الخطّي للأحداث مرتبكاً، ويكاد المنطق يختفي. قليلون هم الذين يعثرون على مساراتهم رغم الضّجيج، وكثرة الأشباه المزيّفين، وتلاشي المشتركات الأخلاقية لأجل القيم الفردية.
من هذه القلة، من يصل به الحد إلى إيجاد النّد والصُّورة والأصل، في مرحلةٍ من حياتهم. منهم فنانون وكتاب، وآخرون لم يبدعوا فنّا غير فن الحياة، مثل الفراشات في الخفّة والجمال، والتقاط الزّهر وسط الحشائش. نستحضر محمد الموجي، أحد رموز الموسيقى العربية في القرن العشرين، الذي أكمل تلحين قصيدة "في عينيك عنواني" التي بدأها محمد عبد الوهاب، ثم توفّي قبل أن يُكمل تلحينها. لتغنيها المطربة المغربية المعتزلة سمية قيصر. قد تعتبر هذه القصيدة الوحيدة في الموسيقى العربية، التي اشترك فيها أكثر من ملحن (باستثناء ظاهرة الأخوين رحباني). لعلّها الطاقة التي تجمع الأشباه في مصادفات الحياة التي ألهمت نهلة القدسي وشركة صوت الفن أن يُسندا إلى الموجي مهمّة متابعة العمل في لحن عبد الوهاب غير المكتمل، حتى إنجازه. ولما سُئل الموجي عن تفاعله مع المهمة، قال إن الأمر كان في غاية البساطة، لأنّه وضع نصب عينيه العثور على إجابة للسؤال: ماذا كان يقصد عبد الوهاب في المقاطع القليلة التي تركها من لحن الأغنية؟ وللعثور على الإجابة الدقيقة، عكف على الاستماع المتكرّر لِلمطلع الغنائي الذي تركه عبد الوهاب، ليستوعب روحه في اللحن، ويواصل على خطاه. لعل هذا الحدث الالتقائي صعب الحدوث في عصر السرعة والنظر السطحي، حيث لا مجال للتأمل، فالحركة سريعة والذهن مشغول.
هذا التلاقي بين الأرواح يشبه ما يحدث في الأفلام، حين نقابل أشخاصا لا نتذكّر ملامحهم ولم نرهم من قبل، لكنهم يتركون أثرا عميقا فينا، بسبب فعلٍ أو قول. وأحيانا، نلتقي بهم لاحقاً على أرض الواقع، فهل يمكن أن تكون الأحلام نبوءة إذن؟ يلفت انتباهنا الفيلسوف الألماني إرنست كاسيرر، في كتابه "الدّولة والأسطورة"، إلى عدم غرابة أن نحلم بشخصٍ لم نره منذ زمن، ثم نقرأ اسمه في رسالةٍ أو خبر في صحيفة؛ لأنّ الفلاسفة القدامى تأمّلوا هاتين الطائفتين من الظواهر، واستخلصوا أنّ لكل إنسان شيئين تابعان له: حياة وطيفا. وهذان الشيئان وثيقا الصلة بالجسم، فالحياة هي التي تمكنه من الشعور والفكر والعمل. والطيف هو صورته أو نفسه الثانية. ويُدرك هذين الشيئين كذلك في صورة أشياء يمكن أن تنفصل عن الجسم، فالحياة قادرة على مغادرة الجسم وتركهِ بغير شعور، أو في صورة ميّتة. أما الطيف فيظهر للناس البعيدين عنه، وهي خطوةٌ تجمع بين الحياتين المادية والطيفية. ولم يتعذّر على بعض الناس اتباع الخطوة الثانية، حسب كاسيرر، بينما بدت هذه الخطوة عسيرةً في نظر آخرين، فإذا اعترفنا بانتمائهما معاً إلى الجسم، فهل هناك ما يحول دون انتماء كل منهما إلى الآخر، وأن يكون كلاهما مظهراً لنفسٍ واحدة؟ علينا إذن أن نعدّهما متّحدين. وما يترتب على ذلك هو الفكرة المعروفة التي ترى النّفس مرادفةً للطيف، وفي عينيها عنوانه.