كرة التاريخ تدحرجت نحو غزّة
لو وضعنا ما يجري اليوم في غزّة في سياقه التاريخي، المتوالي في العالم العربي منذ مائتي سنة أو يزيد قليلاً، أي عندما بدأ السعي من أجل التحديث والنهضة، لأمكننا القول إنه يلخّص مآلات أحلام العرب وطموحاتهم؛ إذ كيف يُعقل أن تتولّى قطعة صغيرة من الأرض على الطرف الشرقي للمتوسط، يسكنها مليونا إنسان، مهمّة الدفاع عن أحلام (وآمال) أمّة بأكملها يفوق تعدادها 450 مليوناً من العرب ومليارين من المسلمين، مترافقة مع ما لا يمكن احتمالُه من القتل الوحشي والهمجيّة والتدمير المتعمّد، بينما "الأمّة" كلها تتفرّج؟
ما هو مؤلم أيضاً ذاك التدحرج التاريخي للأحداث التي أوصلتنا إلى هنا. إذ لو قُدّر لعربيٍّ حَلُم بالنهضة في القرن التاسع عشر أن يرى ما يجري اليوم، لفضّل أن لا يعرف ما نعرفه عن انحدار "الأمّة"، ثم انهيارها. صحيحٌ أن حلول الاستعمار العسكري الأوروبي في بلادنا العربية بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين كان قد عطّل أحلام النهضة الأولى وحرفها عن مسارها، لكن ذلك وحده لا يكفي مبرّراً لما وصلنا إليه اليوم، فالشعارات التي رفعتها الدولة العربية المعاصرة بعد التحرّر من الاستعمار، كانت تبشّر بالعودة إلى مسيرة التحديث والنهوض، بما يقتضي وصول الأمّة إلى صحوتها ونهضتها، لا إلى كل هذا الهوان الحضاري والأخلاقي الذي تكشفه استباحة غزّة، التي تقاوم وحدها.
الذين تخلّوا عن الأحلام الجمعية للأمة العربية، سواء تعلقت بالنهضة أو بتحرير فلسطين، هم ذاتهم الذين انزلقوا نحو التطبيع الدافئ مع إسرائيل
لقد شهد التاريخ العربي المعاصر انقطاعاً مدّته نحو أربعين سنة، بين أواخر أربعينيات القرن العشرين وأواخر ثمانينياته، أي منذ ظهور الدولة العربية المعاصرة على مسرح الأحداث، تراجع خلاله هدف "تحديث" الدولة والمجتمع، العربيين، لصالح هدف "تحرير فلسطين"، الذي استُعمل أيضاً غطاءً للدولة الشمولية في غير مكانٍ في العالم العربي، وللانقلابات العسكرية، كما هو معلوم. كذلك مثّل قيام "إسرائيل" صفعة قوية للتنظير حول مشروع التحديث العربي، ذلك أنه أربك أولويات المفكّرين والسياسيين على السواء، فتنازل أكثرهم عن قضية التحديث، كأولوية، لصالح الفكرة التي تختصرها العبارة الشهيرة "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". وهذا يعني أن مشروع التحديث لم يُنجز كي يكون ممكناً الانتقال إلى مشروع آخر، والنجاح فيه. ومن الطبيعي أن نفشل في تحرير فلسطين، رغم كل "الاحتياطات" التي اتُخذت لذلك، بما في ذلك منع الأصوات المضادّة لصوت المعركة، ذلك أننا لم ندخل المعركة بأمةٍ محدّثة، خصوصاً في ثقافتها وسلوكها.
في المحصلة، لم يُنجز هدف تحرير فلسطين، رغم تقديمه على هدف التحديث والنهضة، لكن ذلك أيضاً لم يمنع تغيّر أولويات عربٍ كثيرين مع التغيّرات الكبرى التي عرفها العالم منذ نهاية الحرب الباردة، فبات شائعاً أن نسمع، في العقود التالية، من يرفضون مواصلة اعتبار القضية الفلسطينية بمثابة "القضية المركزية" للعرب، إذ أحلّوا محلّها قضايا محلية وفرعية. ولو أنهم عادوا إلى مشروع التحديث والنهضة باعتباره الأولوية المركزية التي ستتيح لاحقاً تحرير فلسطين، لكان ممكناً تفهّم "وجهة نظرهم"، لكن الحقيقة ليست أنهم تخلوا عن النهضة وعن فلسطين، بل إنهم قبل ذلك تخلّوا عن العروبة نفسها، لصالح هوياتٍ مختلقةٍ يبرّرون بها انهيارهم الأخلاقي المريع.
ما يحصل في غزّة نتيجة نهائية تختصر فشل الدولة العربية المعاصرة في المشاريع الكبرى، سواء نجحت في التنمية المحلية أو أخفقت
لقيت تلك الأصوات انتقاداتٍ كثيرة في البداية، حيث إنها تزامنت واتّساع نطاق "عملية السلام" بين العرب وإسرائيل، وبالذات في ما يتعلق باتفاق أوسلو وقيام السلطة الفلسطينية، فاتُهمت بأنها تخدم ذلك "السلام"، أو تسعى إلى التطبيع مع "إسرائيل". وللأسف فإن ذلك ما جرى حقاً في ما بعد، إذ إن الذين تخلّوا عن الأحلام الجمعية للأمّة العربية، سواء تعلّقت بالنهضة أو بتحرير فلسطين، هم ذاتهم الذين انزلقوا نحو التطبيع الدافئ مع إسرائيل.
عند تلك النقطة، أصبحنا مضطرّين للفصل بين المواقف الشعبية وتلك الحكومية الرسمية، في معظم البلدان العربية، وربما لا نكون إلا منصفين للحقيقة لو قلنا "فيها كلها". هكذا انتقلت الأحلام الجمعية إلى صفّ الحركات الاجتماعية، والرأي العام، والثورات، وابتعدت عن الحكومات وجامعة الأنظمة العربية ومؤتمرات قمتها، فباتت أحلام النهضة وتحرير فلسطين في يد من لا يملكون أن يفعلوا شيئاً بأيديهم. ولهذا يكون طبيعياً أن لا تقدّم "الأمة" لغزّة وفلسطين إلا خطابات الحكومات الجوفاء، ودعوات الشعوب العاجزة.
ما يجري في غزّة اليوم يمثل خلاصة تاريخ العرب في القرنين التاسع عشر والعشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين. هو تكثيفٌ شديد لكل سقطاتنا في التخطيط والتنفيذ، في الشعار والتطبيق، في التصريحات والنيات، في تقديم الولاء على الكفاءة، في تفريغ التطلّعات القومية من جوهرها، والأحلام الوطنية من وطنيّتها. هو نتيجة نهائية تختصر فشل الدولة العربية المعاصرة في المشاريع الكبرى، سواء نجحت في التنمية المحلية أو أخفقت. إنها تلخيصٌ لكل ما في تاريخنا من رداءة، رغم بقاء الأحلام حيّةً في نفوس الشعوب، لكنها رداءة تدحرجت كما الكرة منذ قيام الدولة العربية المعاصرة حتى استباحة غزّة المحاصرة، بينما الأمّة تتفرّج. ... تبّاً لنا.