كيف تفوز بكأس العالم؟
قبل سبعة قرون وبضع سنين، حظَر عمدة لندن كرة القدم، لأنّها تتسبّب في الفوضى، وقرّر زجّ من يخالف القرار في السّجن. كانت بريطانيا في تلك الفترة تخوض حرب المائة عام مع فرنسا. لذا اعتُبرت الكرة مصدر إلهاء عن الواجبات العسكرية لكل إنكليزي. على الرغم من ذلك، ازدهرت اللّعبة التي عُثر على بعض بوادرها الأولى في الصّين، أو اليابان في روايات أخرى، وابتداء من القرن الثامن في بريطانيا. لذا ألقى خورخي بورخيس باللّائمة على الإنكليز، قائلاً إن كرة القدم من أفدح جرائم إنكلترا.
من جهته، لم يعادِ أمبرتو إيكو اللّعبة، هو الذي لعب الكرة في صغره، بل نفر من جمهورها. فقد ظل يُشاهد المباريات على التلفزيون، معلقاً: "لا أكره كرة القدم، بل أكره مُتابعيها". منذ منتصف القرن العشرين، تحوّلت كرة القدم من لعبةٍ إلى مهنةٍ وصناعةٍ وثقافة، وربما أيديولوجيا. ثم ارتبطت بالاقتصاد والسّياسة، حتى أنّ معظم الدول الكبرى تتوجّه إلى الاعتماد على كرة القدم، كأحد مصادر الدّخل القويّة. مثل إنكلترا وإسبانيا والبرازيل وألمانيا، وأخيرا اليابان التي أدخلت أحدث ما توصّلت إليه التكنولوجيا، في التّصوير والإعلانات وتسويق اللّاعبين، ووضع خطة للتّتويج بكأس العالم عام 2050.
عند العرب، مع تطور اللّعبة، ظهر بُعبعٌ اسمه "العامل النفسي". وهو وحشٌ يظهر للعرب حصريّاً، فقبل المباراة وبعدها، يحذّر المدرّب واللّاعبون والمعلّق من العامل النفسي، كأنه السّبب في الربح والخسارة. لا تصبح للّياقة البدنية، ولا لمهارات اللّعب، ولا لخطّة المدرّب أهمّية في حسم مباراة، لينجو اللّاعبون والمدرّب من تداعيات الخسائر، وفي أسوأ الحالات يذرفون الدموع دليلا على براءتهم وسوء حظّهم. في حالة الفوز، يحمدون الله على نصرهم على العامل النفسي "العميل" لفريق الخصم. بينما يبقى الجمهور تعيس الحظ فريسة سهلة للقهر النفسي، بعدما علّق آمالاً كبيرة على الفوز. فهل للعامل النفسي ثأر مع العرب؟ فيترك العالم بكبار "الكوايرية" منه وصغارهم، ويقرفص أمام ملاعب العرب؟
النّتيجة، أنّ العامل النفسي يصبح العدو رقم واحد، في نظر المشاهد، فيتمنّى ألا يُظهر وجهه القبيح في مباراة مهمّة يعلق آماله عليها، من أجل فرحةٍ صغيرةٍ تنسيه مرارة الأيام. لكن الأمر ليس كذلك، فبُعبع قصّته يفسد عليه كلّ أمل أو رجاء، فيتمنّى لو كان رجلاً ليقتله. لكن العامل النّفسي ليس رجلا ولا امرأة، لذا يخوض في المياه العكرة كحجر عشوائي، لا يُعرف مصدره لمعاقبته. رغم أن نتائج المنتخبات العربية في المباريات الأولى للدّورة الحالية من كأس العالم، كانت جيدة على العموم، لكن من يدري كم ضيّع العامل سيّئ السّمعة من فرص للتهديف والفوز.
ولكن للكرة حلاوة إن نظرنا إليها من وجوه أخرى، فالفوز بكأس ينشر فرحاً ما من شيءٍ قد يماثله، بل حتى بمباراة واحدة في مناسبةٍ مثل كأس العالم. ولننظر في فوز المنتخب السّعودي الذي حوّل اليوم التالي إلى عطلة رسمية، وهي معجزةٌ لا يحقّقها إلّا إنجاز وطني تاريخي. ولم تمر حمّى كرة القدم من دون متابعة إبداعية، ربما لم تقترب من حيث العدد من أثرها على حياة الإنسان المعاصر، لكنها تحاول تدارك نفسها.
كتب لاعبون عن اللعبة وأبانوا عن علوّ كعبهم في الكتابة عن متعتها وعذاباتها، بقدر ما أمتعوا الجمهور في الملاعب. منهم خورخي فالدانو، الذي جمع بين الحُسنيَيْن: لاعب كرة ناجح، بلعبه في منتخب الأرجنتين الفائز بكأس العالم 1986، وتأليفه بعد اعتزاله كتباً عديدة عن اللعبة. بينما شغف الأديب الأوروغواياني إدواردو غاليانو بالكتابة عن الكرة بروح أدبية وفلسفية، ليعوّض عما لم يستطع تقديمَه في ملاعب كرة القدم.
ولكن اللّعبة لا تخلو من ورطات أخرى لجمهورها. ومنها الدورة الحالية من كأس العالم، التي بُرمجت بعض مبارياتها في منتصف النهار. الأمر الذي وضع المدارس في حرج السّماح بتغيّب التلاميذ، أو إتاحة الفرصة لمشاهدة مباريات منتخباتهم في المدارس، أو تجاهل المباريات كلّياً. وهو ما فعله بورخيس الذي زامن مواعيد محاضراته مع مباريات الأرجنتين في مونديال 1978 لمواجهة المدّ الكروي. ولا نعرف ما إذا حضر طلبته، أو فضّلوا سحر الكرة في عصر ذهبيّ لبلاد التانغو؟