لا ضوء في نهاية "القمّة"
من "القمّة" إلى النفق تُختزل الحكاية، فمن نصدّق الآن: "القمّة" أم "النفق"؟
قبل ذلك، علينا أن نعيد ترتيب أبجدياتنا، لنعرف مبلغ الزيف الذي أحدق بنا طوال أعمارنا، فاعتقدنا أن القمّة" عالية، و"النفق" منخفض، لنكتشف بعد غزّة أن العكس هو الصواب، فكم من "قمّة" لا تعادل ربع قامة النفق عندما يسكُنه مقاوم، وأن الثرى أعلى من "الثريّا" عندما يزحف عليه المقاتل، وشتّان ما بين زحفٍ و"زحف" عندما يكون الأول لاقتناص العدوّ، والثاني لتقبيل حذاء أميركا.
لم نكن ننتظر من "القمّة" أن تكون بحجم الوجع الصارخ من أنقاض غزّة، وأطفال جباليا، والبريج، ومن جثثٍ تبحث عن قبور قبل أن تموتَ ثانية في أيّ موضع مرشّح لقذيفة، بعد أن أصبح الموتُ في غزّة يُدار بلعبة "روليت" من عدوّ يقتله الضجر، ويُطلق النار لا على التعيين أو الانتخاب..
كنّا نعرف أنها "قمّة" لن تكون بحجم الجراح، فقد ألفنا بيانات القمم الختامية الدّبقة، والمرنّخة بالبلاستيك السائل، على غرار "ندين.. وندعو.. ونطالب.."، وكأن اجتماعها يبحث قضية خلاف على صيد السمك في بحر البلطيق، وليس قضية داخلية يشاطرونها الدم والعصب والدين واللغة، فلم يعد ثمّة "مصير مشترك"، و"عدوّ مشترك".
كنّا نعرف هذا كله قبل انعقاد القمة، لكنه "طول الأمل" ورغبة الغريق أن يرى قشّة يتشبّث بها جعلت بعضَنا يراهن على أن تكون القمّة مغايرة هذه المرّة، لا سيّما أن ثمّة "كارثة" كبرى تحدّث عنها بعض الزعماء العرب وحذّروا منها، لأنها تمسّ دولهم وأمنهم القوميّ، ومنهم من عقد قمّةً دوليةً من أجلها، وأعني بها كارثة "التهجير"، التي تبدو فصولها واضحة للعُميان، غير أن الرهانات كلها سقطت، بسقوط القمّة نفسها في مستنقع الاجترار والتكرار، فلا موقف حاسمًا، ولا حتى مجرّد التلويح باتخاذ قرارات يخشاها العدوّ، ويحسب لها حسابًا، على غرار التهديد بسحب السفراء، وإلغاء اتفاقيات التطبيع، فتلك "محرّمات" على ما يبدو في عُرف أنظمة التطبيع، ومن ثوابت "الأمن القومي" عند بعضها التي تشاطر العدوّ مناوراته العسكرية، وتتطلّع إلى إقامة تحالفات استراتيجيّة معه، على الرغم من أنها ترى ملء العين أنه عدوّ مهزوم، ومرتبك، ومُخترق، بفضل عملية نوعيّة من ثلّة أفراد، خلخلت كيانه وثوابته، وسمعته العسكرية والأمنيّة برمّتها، ولولا الاحتضان الأميركي له قبل السقوط، لربما انهار حرفيًّا.
كان حريًّا بمن يبغون التحالف معه أن يدركوا أنه كيان هشّ لن يقدّم لهم أيّ حماية تُذكر، هو الذي لم يستطع أن يحمي نفسه. وأمّا أولئك المرعوبون من قوافل اللاجئين الجديدة فكان عليهم أن يعلنوا "حربًا" استباقيّة لا "مؤجّلة" إلى حين وقوع "الفاس بالراس"، وإلّا فماذا ينتظرون من أفواج بشريّة لم تعد تجد الماء والغذاء والدواء، بل الموت الذي يطاردهم من خطوةٍ إلى أخرى، ومن شمال قطاع غزّة إلى جنوبه.. ذلك ما يجعلنا نشكّك في صحة تصريحاتهم وتحذيراتهم "إسرائيل" من اقتراف جريمة التهجير مرّة أخرى، بل من حقّنا أن نذهب حدّ اتهامهم بالتواطؤ مع الكيان الصهيوني في هذه الجريمة.
لم يصلح هذا كله سببًا لساكني "القمّة" لأن يتّخذوا ولو قرارًا واحدًا يلجم "حليفهم" في مجزرته المفتوحة، لكنه كان سببًا أدعى لنا نحن أن نهجر قممهم إلى حيث "الأنفاق" التي لا تعرف النفاق، فهناك تُعقد القمم الحقيقيّة، التي تتخذ فيها القرارات المصيريّة، وتترجم فيها الأقوال إلى أفعال حتى قبل أن يتجاوز الحرف حدود الشّفاه. وأمّا بيانها الختاميّ فلا يعجّ بمفردات التوسّل و"التسوّل"، بل بأبجديّات العزّة والكرامة، والقول الواحد الجامع القاطع إن طريقنا لن يكون لغير "الأقصى"، وليس إلى واشنطن... تلك هي "القمّة" التي لا ضوء في نهايتها، وذلك هو "الضوء في نهاية النفق".