لبنان: وقائع انهيار
كل ما يجري في لبنان اليوم يُصنّف في خانة الانهيار. لم يعد يوجد فاصل بين الحدث/ المصيبة وما يليه 24 ساعة، بل ما يجري هو انهيار لحظي. في كل دقيقةٍ، يكتشف اللبنانيون كارثة جديدة تقع عليهم. الدولة عاجزة عن تأمين أي شي. أزمة كهرباء أغرقت المناطق اللبنانية في ظلام دامس على مدار اليوم. حتى مولدات الكهرباء الخاصة لم تعد قادرة على مجاراة حجم التقنين، وتحولت إلى "دولة رديفة عاجزة". نقص في الأدوية من دون قدرة على تقديم إجابة شافية عن السبب. غلاء فاحش ومتسارع في أسعار المواد الغذائية، على الرغم من أن شاشات التلفزة لا تتوقف عن بث تصريحات لوزراء يتحدّثون عن دعم عشرات السلع. أزمة خبز مفتعلة أجبرت الناس على الوقوف في طوابير لساعات، كان كل الهدف منها رفع سعر الرغيف، قوت الفقراء الوحيد.
مراكز تسوق تمنع المواطنين من شراء أكثر من كيس حليب واحد أو علبة فول، بذريعة السماح للجميع بتوفير مستلزماتهم، بينما الحقيقة أنها تريد منهم دفع سعر أعلى في المرّة المقبلة التي يعودون فيها، وقد يكون ذلك بعد ساعات، لا بعد أيام، لأن بورصة الأسعار تتغير لحظياً.
تحضر مشاهد عديدة من زمن الحرب الأهلية هذه الأيام. تعود إلى أذهان من عايشوا يومياتها، خصوصاً بعد عودة ظاهرة طوابير الخبز والدولار، مع فارق لا ينفكّ هؤلاء عن ترديده: نحن لم نجع في تلك الفترة، أما اليوم فاللبنانيون جائعون، بكل ما لهذه الكلمة من المعنى. بعضهم يكتفي بوجبة واحدة في اليوم، إذا توفرت، وبعضهم يقايض الثياب والأدوات الكهربائية التي يمتلكها بالحليب والحفاضات لأطفالهم أو ببعض المؤونة، ليتمكن من الصمود أياما.
والأسوأ أن على اللبنانيين، بينما بطونهم فارغة حتى من لقمة الخبز التي ارتفع ثمنها، وبينما يفكرون في اليوم ألف مرة بما سيحدث في اليوم، أن يستمعوا إلى ترّهات سياسيين تحضر على موائدهم جميع أطباق الطعام، كأن يطلب أحدهم من المغتربين تبني عائلات لبنانية، وكأن هؤلاء لم يهاجروا من هذا البلد إلا بحثاً عن لقمة عيش لهم ولمساندة أسرهم في لبنان. أو أن يدعوهم آخر إلى شرب النبيذ والعرق المحليين، عوضاً عن الأجنبيين. أو يحاول ثالث إقناعهم بأن ما يجري مؤامرة خارجية، وبأننا قادرون على التغلب على كل ما يجري.
يتهاوى البلد مع انهيار سعر الليرة اللبنانية، لتسجّل كل يوم رقماً قياسياً جديداً مقابل الدولار، من دون أن يظهر أي أفق لنهاية صعوده. يحدث ذلك في ظل تخبط مسؤولي هذه الدولة، وتناتشهم في ما بينهم، حتى في لحظة السقوط هذه. بالنسبة إليهم طالما توجد ليرة واحدة من الممكن سرقتها وتهريبها خارج البلد، بمساعدة حلفائهم في مافيا المصارف، فلا مانع من ذلك، لأنهم يدركون أنهم في مركب واحد، ومهما علت خلافاتهم، فإنهم قادرون على تجازوها، لوأد أي محاولةٍ لمقاضاتهم أو محاسبتهم عن مسؤولية ما يجري في فترة ما بعد الحرب الأهلية. ومصدر اطمئنانهم الرئيس أنهم يحتكرون السلطات والقوة. هكذا يصبح مفهوماً كيف أنه لا داعي لاستدعاء أي متهم بالفساد، فهؤلاء ليسوا خطراً، بل من البيت وأهله. أما الناشطون الذين يشاركون بفعالية في الاحتجاجات الشعبية، أو يبرزون مواقفهم الناقدة على مواقع التواصل الاجتماعي، فهم الخطر المحدق، ويجوز استدعاؤهم بالمخالفة للقانون، وترهيبهم، لأنهم ببساطة يجرؤون على انتقاد المسؤولين بمختلف توجهاتهم، ويشيرون إلى مكامن الخلل الحقيقية، ولا يبيعون الناس أوهاماً.