لمن تُقرع الأجراس؟
ما عاد هذا السؤال مطروحاً بعد اليوم، فقد أجابت عنه كنائس القدس كلها دفعة واحدة يوم الجمعة، الموافق الثالث عشر من أيار/ مايو 2022، وكانت الإجابة ساطعةً كغضب فيروز في الشوارع "العتيقة": الأجراس تُقرع لشيرين أبو عاقلة.
كان يتعيّن أن ننتظر 74 عاماً لنجيب عن سؤال أرنست همنغواي، عندما طرح السؤال سنة 1947 عنواناً لروايته الخالدة؛ لأنه يعرف جيداً أنه لن يحظى بقرع الأجراس سوى أيقونة خالدة مثل شيرين، توحّد المِلل والطوائف والأديان، اليسار واليمين، على قلب امرأة واحدة.
وكان يتعيّن أن تتعدّد شيرين ليتسع موتها لآلاف المشيعين الذين احتشدوا من جنين إلى القدس، ليتبادلوا رفع الراية كلما سقط واحد منهم، أو ليحملها فردٌ واحدٌ بيسراه إن سقطت يمناه، ومن النعش ينبعث صوت شيرين الخجول التي عشقت محمود درويش: "سقطت ذراعُك فالتقطها/ واضرب عدوّك لا مفرُّ/ وسقطتُ قربك فالتقطني واضرب عدوّك لا مفرُّ"... ربما لهذا لم تغضب شيرين عندما كان نعشها آيلاً للسقوط.
ما بعد شيرين ليس كما قبلها. تذكّروا ذلك، هي لم توحّد شعباً فقط، بل وحّدت العالم الذي بدأ يدرك فداحة جريمته باختراع آلة قتلٍ وحشيةٍ خرجت عن طوعه، ولم تعد تكترث بأي قيمةٍ إنسانية على ظهر البسيطة. يجتمع مجلس الأمن على دم يخصّ فلسطين، ولأول مرة يجلّل العار سيماء ساسة الغرب، ويطالبون بكشف ملابسات الجريمة، ولأول مرة تجد إسرائيل نفسها في قفص الإدانة من أطراف عرفت بانحيازها المسبق لها... تلك مقدّمات الزوال لو تدري إسرائيل، حتى ربما قبل حلول موعد نبوءة إيهود باراك الذي حدّده بانتهاء ثمانين عاماً على عمر هذا الكيان.
شيرين "امرأة غيّرت اللعبة"، وبلورت ملامح قواعد جديدة، بدليل أن استشهادها تصدّر نشرات الأنباء في العالم برمّته، واختطف قصب السبق من حربٍ عالميةٍ موازية تدور رحاها بين الغرب وروسيا، واضطرّ زعماء "كبار" إلى اللحاق، ولو متأخّرين، بالنعش وطقوس العزاء؛ ليثبتوا فلول حضور، مهما كان باهتاً، أمام الكاميرات التي تجمّدت عدساتها على وقائع شيرين أبو عاقلة التي بدأت بخبر استشهادها، أما النهاية فمفتوحةٌ على تحوّلاتٍ عميقةٍ لن تكون فيها إسرائيل الرابح هذه المرّة بالتأكيد.
ولئن كانت الحرب الروسية الأوكرانية ترسي الآن قواعد لنظام عالميّ جديد، فإنّ استشهاد شيرين يرسي، هو الآخر، قواعد لنظام عربيّ جديد لا مكان فيه إلا لمن ينحاز لأبجديات الصراع الأولى مع الكيان الغاصب، فالرصاصة التي اخترقت رأس الشهيدة هتّكت، قبل ذلك، جماجم من استوطنت في رؤوسهم فكرة التطبيع مع قتلة الحرية والحقيقة، وبما يثبت بالملموس أنّ أشدّ ما تخشاه إسرائيل التي تدّعي الحرية هي الحرية نفسها، والدليل أنها تسهم بتكريس الأنظمة الاستبدادية، سواء في محيطها أو في قلبها من سلطة فلسطينية تابعة ومؤتمرة بأوامرها.. لا مجاملات في النظام العربي الجديد، ولا مترهّلين ممن يكتفون بأنصاف الطرق ولمن يصافحون ويجاملون، ويساومون على مستقبل الشعوب.
أجابت الأجراس بنفسها عن السؤال الذي امتدّ من "النكبة" مروراً بـ"النكسة"، وصولاً إلى "اليقظة" التي أحدثها استشهاد شيرين، لتقول إنها لا تُقرع إلا لشيرين وأضرابها من الشهداء، الذين قايضوا دمهم بالدحنون، وكشفوا عورة المحتل بحياتهم المشدودة على قوس الاشتباك الدائم مع جنوده ومستوطنيه ورموزه، وبموتهم الشاهق راية فوق الهامات.