ليبيا... عندما يحوّل الساسة الانتخابات إلى خطر
غالباً، يمكن ملء أي فجوة معرفية حول حدثٍ/ ملف ما بتكثيف القراءات عنه بافتراض أن المعلومات تكون متوافرة، وبذل الجهد المناسب كفيل بتصويب الأمور. لكن ذلك يبدو أكثر صعوبة أو غير مجدٍ، عندما يكون الحديث عن الأزمات في ليبيا. لا تكاد الصورة تقترب من الوضوح أبدا. مثلاً، يسود منذ سنوات خلافٌ بين معسكري الغرب والشرق وداخلهما على قوانين الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، ويتركز الحديث خصوصاً حول بند ترشّح/ عدم ترشح العسكر، ومن يحملون جنسية أجنبية، طبعا بسبب الموقف المؤيد لترشّح خليفة حفتر أو المعارض له. لكن على الرغم من مرور سنوات على الأزمة وتكرار الأحاديث نفسها، لا توجد مسوّدات قوانين واضحة يمكن الاطلاع عليها لمعرفة ما يُطرح حرفياً من أفكار أو تتبّع مسار كل الطروحات والتعديلات التي اقتُرحت. كل ما يمكن العثور عليه قليل من التفاصيل هنا أو هناك، ويتبقّى للمتابع مهمة تجميعها وربطها. وحتى الحديث قبل أيام عن إقرار مجلس النواب هذه القوانين لم يكن كافياً لنشرها بعد. ولذلك، يبدو السجال حالياً بشأن إقرار القوانين والاعتراضات عليها مثيراً للسخرية، ليس بسبب عدم أهميته، لكن لأن مواقف المعترضين تنطلق، على الأغلب، من أفكار مبدئية أو مما يتناهى إلى مسامعهم من تسريباتٍ بشأن فحوى القوانين، لا من إطّلاع واضح على تفاصيلها.
يحرص السياسيون في ليبيا على إبقاء الأمور ضبابية وغامضة. تحوّل ذلك إلى نهجٍ تتسم به الحياة السياسية. التطبيع مع هذا الواقع، وإن كانت قد مرّت سنواتٍ فإن استمراره يزيد المخاطر. والسؤالان الأهم اليوم: هل فعلاً يمكن إجراء الانتخابات في مثل هذه الظروف السياسية والأمنية؟ وإلى أي مدىً سيكون الذهاب في خطوةٍ كهذه من دون تأمين الأسس الضرورية لسلامتها وشرعيتها مقدمةً لاقتتالٍ أهليٍّ جديد في ظل استمرار الانقسام على مستوى السلطات، خصوصاً التنفيذية، والاحتكام للسلاح في كل مرّة يحتد فيها الخلاف في الرأي حول أزمة ما؟... الإجابة الوحيدة الواقعية أن أي حديثٍ عن انتخاباتٍ في ظل هذه الأوضاع كمن يصبّ الزيت على نار الأزمات.
في مقابلة مع المبعوث الأممي إلى ليبيا، عبد الله باتيلي، أجراها موقع "أخبار الأمم المتحدة" وتعود إلى أغسطس/ آب الماضي، قال إن "القوانين الانتخابية ليست قابلة للتنفيذ كما هي، لأنها بحاجة إلى التعديل والضبط الدقيق والتمحيص"، لكنه أشار أيضاً إلى أن "المسألة لا تتعلق فقط بالقوانين الانتخابية، أو الأساس القانوني للانتخابات. القضايا هي سياسية للغاية". قدّم باتيلي قراءة واقعية للوضع بقوله إنه "في ظل الانقسامات التي تشهدها ليبيا اليوم، هناك ضرورة لمؤسّسة سياسية موحّدة، ومؤسّسة أمنية موحّدة، ومؤسّسات عسكرية موحّدة. ولهذا السبب، نعتقد أن مسألة توحيد الحكومة ليست مجرّد مسألة قانونية أو دستورية، إنها مسألة سياسية للغاية". واعتبر أن "على الزعماء السياسيين أن يجتمعوا ويتوصلوا إلى اتفاقٍ لتشكيل حكومة موحّدة تقود البلاد إلى الانتخابات". مشكلة باتيلي، كما غيره من المسؤولين الدوليين والأمميين، الذين انخرطوا في الأزمة الليبية، طوال السنوات الماضية، أنهم يشخّصون الأزمة، لكنهم يكرّرون العموميات أو ألف باء الحلول، وكأنها مستخرجة من مقرّرات دراسية، بينما يحتاج الليبيون إلى حلول واقعية وفاعلة لأزماتهم تقود إلى انتخاباتٍ تنقذهم لا تُغرقهم. صحيح أنهم يعون جيداً أن هذه الحلول ليست قريبة، وأن السياسيين يتحمّلون المسؤولية الأساسية عن تعطيلها، لكن يدرك الليبيون أيضاً أن "المجتمع الدولي" أو الدول المعنية بالشأن الليبي ترى أن الوضع القائم يمكن الاستمرار به بعض الوقت، طالما أن مصالحها ليست في خطر.