ماذا لو وُلدنا في مكان آخر؟
إذا افترضنا أنّه يمكن تقسيم الانتماء الإنساني إلى فصائل بشرية، ألا نكون هنا قد وصلنا إلى استبدال انتماء الإنسان إلى الثّدييات، بانتمائه إلى "البشريات"؟ وهي فئات من البشر انقسمت إلى فصائل تتكاثر بمرور الزمن، بعضها برمائي، وبعضها حربائي، وبعض آخر أراد الطيران طوال حياته، لكنّه مثل الدجاج لم يكتشف كيف يجعل أجنحته تطير، فاكتفت ذكوره بالصّياح، وإناثه بالنّقنقة. المهم أن البشر ليسوا على قلبٍ واحد، وعلى الرغم من الاشتراك في الخصائص الجسدية بين المنتمين لتلك الفصائل، فإن الشّخصيات لا يمتّ بعضُها لبعض إلا بنسب قليلة تشكّل فصائل في نقط تشابهها، على الرغم من أن كلّا منا يظن نفسه فريدًا ولا مثيل له. وكم هي المرّات التي نقول فيها لمُخاطبنا، "لستُ مثله/ا، أو مثلهم، عاملني كما أنا". باعتبار أنّنا حالات خاصة، نظنّ فيها أنّنا نقرّر من نحن، وبالتالي لا أحد مثلنا، لأننا نفكّر بشكل مختلف، مهما كان هذا الاختلاف الذي نظن. لكننا سرعان ما نلعن بعض المصائر التي فُرضت علينا؛ نلعن وجودنا في بلد ما، أو في عائلة ما .. ونقول: فقط لو أننا وُلدنا في مكان آخر. هكذا "تكون الحياة في مكان آخر"، والسّعادة في مكان آخر.
فقط الآخرون يبدون أقل همّا، وحياتهم أهون مخاطر، وبَالهم أهنأ. عندما نتقدّم في السّن تكون هذه أسوأ الحقائق التي نضطر لمواجهتها؛ أنّنا لسنا فريدين كما كنّا نظن، وأننا، مثل بقية أفراد الفصائل، نحاول النّجاة من القوالب السّابقة لوجودنا.
مع ذلك، لسنا سواء بشكل كلّي؛ يمرّ بك رجلٌ يجرّ عربة عليها طماطم. ربما في نهاية يومه لن يربح حتى ما يعادل دولارين. مع ذلك لا يشكو، كأنه مخدّر في مصيره هذا. بينما أنت تُسرع وتركض، تعمل وتدرس، وتقاتل، يمرّ هو بجانبك هائمًا في هدوءٍ قاتل، يبدو للمتأمّل الخارجي، عاديا وغير منشغلٍ ببؤسه أو حاجته المستمرة لكل شيء.
تنقضّ فخاخ الهوّية على فريستها، مثل أفعى تبتلع ضحيّتها من دون أن تغُصّ بعظامه
شخصٌ يقود سيّارة أجرة لا يملك شيئًا ومتاعبه كثيرة، ولا يسارع بالتوقف ليركب كلّ شخص في طريقه، ليشعرك كأنّك ركبت حافلةً لا تصل إلّا بعد أن تخرج روحك من الوقوف المتكرّر، ومن ذلك كُثر. بل كلّ ما يفعله أن يقف لمن يظنّ أنّ المشوار يقود إلى حيث وجهة الرّاكب الأول بالضبط. نحن مثل سائقي التّاكسي، منّا من يسعى إلى اقتناص كلّ راكب، حتى ولو لم يكن ذاهبًا إلى الوجهة نفسها، مع ما يعرّض له نفسه من شجار مع الزّبائن، وغليان أعصاب. ومن لا يقف إلّا لمن يصرخ من بعيد محدّدًا وجهته، وتكون هذه الوجهة مطابقةً لطريقه؛ مفضّلًا أن يشتري هناء باله، إلى درجة أنّه لا يتجشم حتى عناء الوقوف لكلّ راكبٍ للتعرّف على وجهته.
في بلدة شاطئية خارج فصل الصّيف، يجلس رجلٌ أمام صنارته التي لن تمنحه، في أحسن الأحوال، بضع سمكات لا غير. ماذا يفعل بهذه السّمكات؟ أية حياة ممكنة له؟ في جهة أخرى، تجد شخصًا مطحونا بين أسرة كبيرة العدد، ولا يجلس للتفكير في طريقةٍ للحد من ازدياد عدد أولاده في غفلة من الزمن، على الرغم من أنّه لا يكاد يعيل نفسه وزوجته، ومع ذلك يُنجبان ولدا كل سنة. ماذا يطعمانه وكيف يربيانه؟ العلم عند الله. الزّوجة لا تفعل شيئا للحدّ من سلسلة "الولادات الغلط"، والمصير المحتوم لهؤلاء الذين غالبا ما ينتهي بهم الأمر في الشّارع، لأنّ أمهم تركت تربيتهم له، وأباهم تركهم جميعا للأيّام ..
من يتحكّم في ألّا نكون من هؤلاء أو أولئك؟ من يحدّد هويتنا؟ هل هويتنا لعنة، تطاردنا؟ وهل هناك بطاقات وهويّات قاتلة؟ منذ ولد أصحابها وهم يحاولون الحياة، لكنّهم إلى الموت أقرب. تنقضّ فخاخ الهوّية على فريستها، مثل أفعى تبتلع ضحيّتها من دون أن تغُصّ بعظامه، مع أن عرضها لا يتجاوز ربع متر.
أنت لن تكون إلّا في المكان الذي حُدّد قبل أن يكون هناك وجود اسمه "أنت"
لا يمكن أن نتحدّث، عربيا على الأقل، عن الهوية، من دون أن نذكر أمين معلوف و"الهويات القاتلة" كتابه الذي يرد فيه: "علمتني حياة الكتابة أن أحذر الكلمات، فتلك التي تبدو أكثرها شفافيةً هي، في أغلب الأحيان، أكثرها خيانة. أحد هؤلاء الأصدقاء المزيفين هو بالتحديد كلمة "هوية"، فجميعنا نعتقد معرفة ما تعنيه هذه الكلمة، ونستمر بالثقة بها حتى عندما تبدأ هي بقول العكس بمكر".
هنا لا أقصد الهوّيات التي يتحدّث عنها معلوف في كتابه، الهوّية الوطنية والدينية والإثنية، ومدى تمسّك الشخص بها، أو صراعه من أجلها، وكيف أن الهوّيات لا تتجزأ. بل أستعير فقرته الثمينة، لأبرز الكيفية التي تشكل فيها كلمة "الهوية" فخّا ومقتلا لصاحبها.
على الأقل مرّة في الحياة يسأل أحدنا نفسه: ماذا لو وُلدتُ في مكان آخر؟ وهنا لا نسأل عن احتمال ولادة في الصّومال، أو بنغلاديش، أو النيبال. بل في مجتمعات متقدّمة، مع العلم، إن صح الاحتمال، له وجهان؛ قد تولد في مكان أفضل، أو في مكان أسوأ.. إنّه صراع الهوّية الحقيقي، أن تكون ما تريد في المكان الذي وقع فيه رأسك، أينما كان، في أفضل الأماكن أو أسوئها. فالأسوأ ألا تكون نفسك، وأن تولد في مجتمعاتٍ تخلق مصيرك قبلا. أنت لن تكون، إلّا في المكان الذي حُدّد قبل أن يكون هناك وجود اسمه "أنت"، والذي يفترض أنّه الأنسب لك.