ما تريده الصين من مصر
دُعيت قبل أيام للانضمام إلى عضوية تجمّع بريكس السعودية ومصر والإمارات. ويلفت الانتباه تفضيل قادة التجمّع الاقتصادي الذين اجتمعوا في جوهانسبرغ دعوة مصر (لا الجزائر مثلاً) لتكون عضواً في تجمّعهم، إلى جانب القوى الاقتصادية الخمس الصاعدة (الصين، الهند، روسيا، البرازيل وجنوب أفريقيا)، مع الأرجنتين وإيران وإثيوبيا التي جرت دعوتها هي الأخرى إلى عضوية التجمع اعتباراً من مطلع العام المقبل 2024.
يلفت الانتباه إلى هذا الاختيار أن مصر ليست دولة مصدّرة للنفط، كما هي السعودية والإمارات والجزائر، ولا تمتلك احتياطيات كبيرة منه يمكن أن تؤثر في الأسواق العالمية، أو يكون لها دور في إحلال العملات المحلية للدول الأعضاء محل الدولار في تبادلاتها التجارية، بحسب ما صدر عن اجتماع جوهانسبرغ من تطلعات. فما الذي تريده دول تجمع بريكس من دعوة مصر؟ وما الذي تريده الصين تحديداً من الموافقة على اختيار مصر، بالنظر إلى أن بكين الطرف الأكثر طموحاً في التجمّع، والأكثر سعياً إلى استثمار كل الفرص للتحوّل إلى قطب عالمي ينافس الولايات المتحدة، ويناطحها؟
ربما يمكن القول إن ثمّة عنصرين حاسمين في موافقة الصين على دعوة مصر، يتعلق أولهما بسعي بكين في هذه المرحلة إلى إرضاء موسكو، إذ قالت مصادر مصرية قبل اجتماع "بريكس" إن القاهرة تعتمد على روسيا في دعم ترشيحها للعضوية، وتريد الصين، في هذه المرحلة، أن توزان بين ما تقدّمه لروسيا وما تمنعه عنها، بحيث تُبقي العلاقة معها في صورة "تحالف استراتيجي" كما يقول البلدان في دعايتهما الإعلامية، فيما لا تدعم مغامرتها العسكرية في أوكرانيا، وشطحاتها السياسية مع كوريا الشمالية، ما يعني في المحصلة تفريغ ذلك "التحالف الاستراتيجي" المزعوم من مضمونه. وهكذا كانت موافقة الصين على رغبة روسيا في دعوة مصر، من صنف تلك الموافقات غير المكلفة التي تمد الصين من خلالها موسكو بشعور التنسيق السياسي، استمراراً لما جرت عليه العادة بين البلدين منذ أزيد من ربع قرن، حين كانت لروسيا الكلمة العليا في التوافق السياسي الخارجي الذي ظلت الصين تلتزم به حتى عهد قريب.
الصين لا تريد لتجمّع بريكس أن يكون "حلفاً"، على أي صعيد، سياسياً كان أو اقتصادياً أو عسكرياً، بل أن يكون نموذجاً لعالم "ما بعد الأحلاف"
ولكن العنصر الآخر ربما يكون أكثر أهمية في موافقة الصين على اختيار مصر، لدى استعراض الطلبات المقدّمة للعضوية من نحو 23 بلداً، وهو المتمثل في "القوة الناعمة" التي تمتلكها مصر في كل من قارّة أفريقيا والمنطقة العربية، والتي كانت ولا تزال ذات أثر كبير في حضور مصر الإقليمي رغم كل ما مرّت به من أزمات اقتصادية وسياسية. ومن مصلحة الصين وجود دولة تتوفّر على هذا التأثير في محيطها ضمن هذا التجمّع الدولي، لأن غرض بكين منه ليس أن يكون أداة سياسية في مواجهة الولايات المتحدة، ولا حلفاً عسكرياً يقابل حلف شمال الأطلسي، ولا حتى تجمّعاً اقتصادياً يوازي تجمّع الدول الصناعية السبع الكبرى، وإنما قناة لترويج مساعي الصين السلمية والتنموية في العالم، بحيث تتصرّف الدول الأعضاء في التجمع كما لو أنها على الحياد في صراع الصين مع الولايات المتحدة، وأنها تريد استثمار النجاحات الاقتصادية الصينية من أجل تحقيق التنمية في بلدانها من دون أن تتّخذ موقفاً معادياً من الولايات المتحدة وحلفائها في الغرب والشرق، بالضرورة. وهنا يبدو مبرّراً وجود دولة مثل مصر، ذات تأثير في أفريقيا وغرب آسيا، يمكنها أن تساعد في نقل تلك الرسالة الصينية إلى الدول النامية، من خلال تجمّع بريكس، وأن تساهم في دول القارّة الأفريقية على وجه الخصوص التي تشهد تنافساً أميركياً صينياً روسياً محتدماً على النفوذ، اعتباراً من هذا الاجتماع الذي حمل عنوان "بريكس وأفريقيا".
يؤكّد ذلك ما ذهب إليه الرئيس الصيني شي جين بينغ، في كلمته خلال انعقاد اجتماعات "بريكس" في جنوب أفريقيا، إذ قال صراحة إنه يأمل في أن يتدخّل التجمّع في النزاعات الدولية ليساهم في حلها، ما يعني أن المأمول من الأعضاء الجدد الاندماج في صيغةٍ دوليةٍ تناوئ فكرة الأحلاف التي يعادي بعضها بعضاً، لصالح فكرة المشاركة الدولية في التنمية، وهو الشعار الذي تواصل الصين رفعه منذ إطلاق مبادرة الطريق والحزام عملياً اعتباراً من عام 2015.
من مصلحة الصين وجود دولة تتوفّر على تأثير في محيطها ضمن تجمع بريكس
على أن هذا لا يعني بالضرورة صدقية الصين في شعاراتها، لأن الصدقية تتحدّد بالتطبيقات العملية، لا بالشعارات. لكنه يعني، على أقل تقدير، جدّية الصين في ترويج فكرة تجاوز العالم الأحلاف المتصارعة التي تريد أن تحقّق مصالحها على حساب باقي الدول، وصولاً إلى التوافق على "مجتمع المصير المشترك للبشرية"، بحسب ما يقول شعار سياسي آخر ترفعه الصين منذ مطلع عهد شي جين بينغ، وهدفه التأكيد على أن "الهيمنة ليست في الحمض النووي للصين"، وأن بكين تبغي "جعل النظام العالمي أكثر عدالة وإنصافاً"، وأن الهدف من دعوة أعضاء جدد إلى "بريكس" "توسيع نطاق هندسة السلام والتنمية"، وفق ما ردّد الرئيس الصيني في كلمته. وهذا يعني، ضمن ما يعنيه، أن الصين لا تريد لتجمّع بريكس أن يكون "حلفاً"، على أي صعيد، سياسياً كان أو اقتصادياً أو عسكرياً، بل أن يكون نموذجاً لعالم "ما بعد الأحلاف".
لا بد أن ثمّة اعتبارات أخرى، تقليدية، حسمت موافقة الصين على دعوة مصر إلى عضوية بريكس، مثل موقعها وسيطرتها على قناة السويس، وطاقاتها البشرية، وقدرتها على تنويع اقتصادها، لكن إضافة العنصرين الحاسمين المذكورين هنا إلى تلك الاعتبارات التقليدية التي تنطبق على طيفٍ واسعٍ من الدول الراغبة بالعضوية ربما تقدّم تفسيراً أكثر تكاملاً لما صدر عن اجتماعات جوهانسبرغ.