ما قبل "طلوع الروح" وما بعده
حسنا فعل فريق مسلسل "بطلوع الروح" بتقديمه واقع الحياة تحت حكم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) للجمهور العربي خارج سورية والعراق، حيث ما زالت قطاعاتٌ محافظةٌ غافلة عن معنى حياة يحكمها تنظيم ديني شمولي. من الناحية الفنية، تميّز الصديق محمد هشام عبية في كتابة سيناريو يرسم شخصياتٍ متقنة، ويخلو من المطّ والتطويل، كما تواصل المخرجة كاملة أبو ذكري إبداعها في إخراج أفضل قدرات الممثلين، لكن زاوية سرد المسلسل السياسية تحتمل نقاشا أوسع.
صحيح أن العمل خرج "بأقل الخسائر" السياسية، فقد كشف الصديق الصحافي، محمد الجارحي، أن المسلسل كان من المزمع تصويره في الرّقة، إلا أن السلطات السورية اشترطت تغيير السيناريو ليًظهر أن هزيمة "داعش" كانت على يد قوات نظام الأسد، لا الأكراد والتحالف الدولي، وهو تزييف رفضه فريق العمل، وقرّروا التصوير في لبنان. كما يُحسب للمسلسل أنه انتهى نهاية واقعية بعيدة عن التوظيف السياسي، بخوف بطلته من العودة إلى مصر رغم براءتها، فقد صنّفتها الأجهزة الأمنية عضوا في التنظيم وستُلقى في السجن. ولكن سردية المسلسل لم تتطرّق لخلفيات سياسية واقتصادية كان دورها في نشأة "داعش" لا يقل مطلقاً عن الأفكار الدينية المتطرفة والخلفيات النفسية للشخصيات.
ولا يُلام صنّاع العمل في ذلك، بل يُلام الواقع السياسي العربي، فإذا كانت جهة الإنتاج منصّة سعودية، وصنّاع العمل يقعون تحت نفوذ السلطات المصرية، فمن الطبيعي ألا تتاح مساحة لطرح خلفيات الثورة السورية، وما سبقها.
في كتاب "داعش.. عودة الجهاديين"، يصحبنا مراسل صحيفة الإندبندنت، باتريك كوكبيرن، في جولة على جذور ذلك الصعود المفاجئ للتنظيم. ويوجّه انتقاداتٍ حادّة للسياسات الغربية التي ركزت على إبراز نجاحات "الحرب على الإرهاب" بشكل سطحي، كما جرى التغافل عن هشاشة الأنظمة الحليفة وفسادها، وكذلك تجاهل الدور السلبي لقوى إقليمية مثل السعودية وباكستان، حسب رأيه.
يعرض الكاتب مظلومية طائفة العرب السنّة في سورية والعراق، والتي وصلت إلى ذروتها الدرامية بعد الربيع العربي عام 2011، حيث قمعت قوات نوري المالكي بوحشية في العراق الحراك المدني السلمي في المحافظات السنّية، نهاية بمذبحة الحويجة، ما أدّى إلى تحوّل قطاع واسع من القبائل و"الصحوات" المتعاونة سابقا ضد القاعدة أو "داعش" إلى جنودٍ لهم، أو على الأقل يقبلون حكمهم كأهون الشرين. وبالتوازي، أسفر التعامل الوحشي من النظام السوري ضد المدن والبلدات المنتفضة إلى تحول الثورة المدنية إلى تمرّد عسكري، سرعان ما تصدره الجهاديون، بدعم إقليمي فضلهم على مجموعات "الجيش السوري الحر".
كما يتناول الكتاب عوامل اقتصادية، مثل أثر الجفاف المستمر أربع سنوات قبل 2011 في دفع أعداد ضخمة من الريفيين إلى السكن في أحزمة الفقر حول المدن السورية الكبرى، وكانت تلك المناطق في طليعة المنتفضين وحاملي السلاح.
وإذا كان ذلك الجانب قد تواتر في كتابات أخرى، منها أيضا الكتاب المهم "أفول أهل السنة" للباحثة ديبورا أموس، فإن كتاب كوكبيرن يتميّز بتحليله أخطاء المراسلين الصحافيين الغربيين، والتي ينفي أن منها إيثارهم السلامة والبقاء في الفنادق، بل يؤكّد أنهم في مجملهم انتقلوا إلى المناطق الخطرة، لكن هذه التغطية كانت، في الأغلب، تقتصر على ظواهر الأمور، كما تتأثر بما تريده القوات الغازية. وفي مثال لافت، سرد أنه بينما تنقل وسائل الإعلام مشاهد الدبابات العراقية المحترقة على حدود بغداد، تسلّق هو الدبابات ليجدها فارغة. يعني هذا أن أفراد الجيش العراقي لم يدافعوا عن صدّام، ولم تحدث معارك حقيقية، كما يعني أيضا أن هؤلاء الضباط المدرّبين لم يتبخروا، لذلك كانوا بعدها في طليعة المقاومين للقوات الأميركية، ولاحقاً انضم عديدون منهم إلى "داعش" وساهموا في التخطيط بالغ الكفاءة لهجماتها.
أهمية مناقشة ما حدث سابقا هو استقراء ما سيحدث لاحقاً. والواقع أن الأسباب نفسها ما زالت مستمرّة، فلم يتغير واقع الفشل في بناء دولة مواطنة ديمقراطية في العالم العربي، كما استمرّت مظلومية العرب السنّة في سورية والعراق، كجزء من مظلومية عامة. ألوف مؤلفة من الأطفال داخل مخيمات اللجوء ومعسكرات الاعتقال يكبرون على سردياتٍ ملغّمة قد تنفجر، ما لم يحدُث تغير كبير قبل "طلوع الروح".