محاربة عدوٍّ وهمي
واحدةٌ من الأشياء الأكثر إثارة للانتباه في احتدام التعليقات العراقية على أحداث الحرب الإسرائيلية في غزّة أن النقاش بين التيارات السياسية العراقية سرعان ما ينتهي إلى تراشق طائفي، وكأن هذه الحرب ليست سوى فرصة أخرى لعرض المواقف الطائفية للأحزاب والنخب الإعلامية المرتبطة بها. من ذلك أن تهمة التعامل مع شركة إسرائيلية تسرّبت إلى لائحة الاتهام في مجلس القضاء الأعلى لرئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي، رغم أن موضوع الدعوى كان مختلفاً ويتعلق بالتزوير.
استخدمت تهمة التعامل مع إسرائيل للتسقيط السياسي إلى أعلى منصب "سنّي"، وكانت وراء هذا الاتهام أطراف شيعية نافذة في النظام. وليس بعيداً عن منصب رئيس البرلمان يخرُج على الإعلام شخصٌ كان عضواً فاعلاً في النظام السياسي، واحتلّ مناصب رفيعة ممثلاً عن كتلة سياسية شيعية ليسخّف الشراكة السياسية التي تأسّس عليها نظام ما بعد 2003، ويعتبر أن منصب رئيس البرلمان منح للسنّة ترضيةً لهم، لانهم كانوا معارضين للنظام الجديد.
تعرض مواقع التواصل الاجتماعي العراقية استخداماتٍ مختلفة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لا علاقة لها بجوهر القضية والصراع، وإنما بأغراض سياسية محليّة، فيسخر إعلاميون محسوبون على جهاتٍ سياسية سنيّة من المساهمة التي قدّمتها أطرافٌ شيعيةٌ مسلّحة لدعم المقاومة في فلسطين، وأنها شكلية واستعراضية، وليست حقيقية، ويقوم طرف مضادّ من إعلام الفصائل الشيعية المسلّحة بالضرب على الوتر الطائفي، ويعيّر الدول العربية "السنيّة" بأنها لم تدعم الفلسطينيين، كما تفعل الفصائل الشيعية بصواريخها على المصالح الأميركية في العراق.
مشهد التراشق الطائفي هذا مُحزن، ويبيّن كيف أننا غير قادرين على اتّخاذ مواقف أو تصوّرات موحّدة في قضايا حيوية في منطقتنا العربية، فضلاً عن الانقسام الحادّ على أساس طائفي داخل حدود البلد وتجاه قضاياه الخاصّة. ... ولكن هذا التقابل في المواقف الطائفية المعلنة أو المبطّنة لا يعكس، في واقع الحال، تناظراً وتكافؤاً في قوّة الفريقين، فالبلد مُستولى عليه بالكامل من التيارات السياسية الشيعية، ولا سيما تلك القريبة من إيران، والقوى السياسية السنيّة لا تملك إمكانية معارضة السياسات التي يفرضها الطرف الشيعي، سوى التنفيس الذي تقوم به بعض الوسائل الإعلامية، أو الحسابات الخاصة ببعض الصحافيين على مواقع التواصل، ممن يعملون خارج العراق. ومواقف هؤلاء مفهومة، ولكن غير المفهوم إصرار المدوّنين المقرّبين من الفصائل الشيعية على نكء الغدّة الطائفية، والإمعان في توجيه الإهانات إلى الطرف المقابل، فما الذي يريدونه أكثر بعد استيلائهم على البلد بأكمله؟!
في الواقع، إنهم لا يملكون خطاباً مغايراً يشغّلون به ماكيناتهم الإعلامية والدعائية، فلا رؤية ولا تصوّر لبناء الدولة أو التخطيط والتنمية سوى "محاربة العدو"، حتى لو كان عدوّاً مختلقاً وليس حقيقياً. كان هؤلاء في أزهى أوقاتهم في سنوات الصراع مع تنظيم داعش، لأن هذا عدوّ "سنّي" يوجد اتفاق على شرّه، ليس بين التيارات الشيعية المسلّحة فحسب، وإنما العالم كلّه.
ولكن ماذا يفعلون بعد انقشاع غبار المعارك؟ ظلّوا يرفعون هراوة التهمة بالداعشية فترة فوق رؤوس السياسيين والناشطين من المناطق السنيّة، ثم خفت بريق هذه التهمة، وعاد الاتهام بالبعثية مرّة بعد أخرى، ثم وفّرت لهم تظاهرات تشرين (2019) فرصة لاختلاق عدوّ جديد، رغم أن قوة تلك التظاهرات كانت من داخل المجتمع الشيعي. ولكن لا بأس من اتهامهم بالبعثية، واتهام البعث "السنّي" باختراق التظاهرات.
إنهم يضربون على وتر تمزيق المجتمع، لأنهم لا يملكون برنامجاً مغايراً، ثم جاءت الأحداث في فلسطين لتوفّر تهماً جديدة، حتى وإن لم تكن لها صلة بأصل الصراع، فيتّهمون من يعارض سياساتهم بأنه إسرائيلي. ويروّجون أنفسهم أنهم والفصائل الفلسطينية المقاومة في جبهة واحدة. وكأن الفساد وجو الاستبداد والتسلط الذي يفرضونه في العراق يخدم القضية الفلسطينية. وكأن التعلق بأستار فلسطين يبيّض صفحتهم ويغسل سجلّهم المعتم.