محاكمة ترامب الثانية
لا تحمل مجريات محاكمة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، للمرة الثانية، أمام الكونغرس، أي مفاجآت، لا في مضمونها ولا في نتائجها المباشرة المتوقعة. بل إن بعضهم يعتقد أن ما يجري لزوم ما لا يلزم، بعد خروج ترامب من السلطة، وعدم وجود فرصة لإدانته مقابل إثبات المؤسسات الأميركية قدرتها في أوج أزمة اقتحام "كابيتول هيل" على الصمود، ولفظ أي شخص يحاول تقويضها، حتى لو كان يقطن في البيت الأبيض.
وإذا كان الديمقراطيون يرون في مساءلة ترامب ليس فقط في الكونغرس، بل أمام العامة، حقا أصيلا وواجبا بعد كل ما قام به من تحريض على اقتحام "كابيتول هيل"، وذلك كنوع من إعادة تذكير بالخطوط الحمر غير المسموح تجاوزها، فإن الجمهوريين، مهما بلغ خلافهم مع الرئيس السابق، وحجم امتعاضهم منه، ليسوا على استعداد لتقديم هدية إلى خصمهم السياسي (الحزب الديمقراطي) بالموافقة على الإدانة، لحسابات خاصة بهم، لا تقتصر حدودها عند ترامب. ولهذا السبب، بدت لائحة الاتهام الموجهة إلى الرئيس السابق، بما تشمله من تحريض على العصيان وعرقلة الانتقال السلمي للسلطة، وحتى اتهامه من الديمقراطيين بأنه أقدم على أسوأ انتهاك للقسَم الرئاسي في تاريخ الولايات المتحدة، ووصف الادّعاء ما يحصل بأنه "لحظة الحقيقة في أميركا"، جميعها حجج غير كافية لإقناع 17 جمهورياً بالانضمام للديمقراطيين من أجل تأمين العدد المطلوب للإدانة.
يُمكن بكل سهولة إضافة حديث فريق محامي الرئيس السابق أمام الكونغرس عن "إساءة فهم" ترامب من المتظاهرين المؤيدين له يوم الاقتحام إلى قائمة الـ16 ألف كذبة والمعلومة المضللة التي أطلقها خلال أربعة أعوام من فترة حكمه، فما من شك لدى أحد أنه كان يقصد التحريض ضد الكونغرس، ويريد عرقلة المصادقة على انتخاب جو بايدن. لكن ما قاله أحد هؤلاء، ويدعى بروس كاستور، لجهة أن الأغلبية في الكونغرس لا تريد مواجهة ترامب "كخصم سياسي في المستقبل"، وتأكيد المحامي الثاني، ديفيد شون، أن هذه المحاكمة "تستغل سياسياً وسوف تؤدي إلى تمزيق البلاد"، يختصر الكثير من طريقة إدارة الرئيس السابق وفريقه معركة العزل وتوظيف التناقضات داخل الحزب الجمهوري لصالحه.
ولو أن ترامب قادر على استخدام موقع تويتر الآن لكان، على الأرجح، يعيد تكرار اللازمة نفسها عن سرقة الانتخابات وتزويرها، لكنه كان سيخصّص ما يكفي من التغريدات لاتهام الجمهوريين بالجبن والخيانة جرّاء سماحهم بمحاكمته، على قاعدة أن كل من ليس معه يتحوّل إلى خصم، وانطلاقاً من يقينه أن المحاكمة ستنتهي من دون إدانة. وبالتالي، سيحتفظ بحقه بالترشح لأي منصب فيدرالي يريده مستقبلاً، سواء اختار الاستمرار بالعمل السياسي وإعادة الترشح في انتخابات 2024 أو الابتعاد.
ولئن كانت السوابق الخاصة بترشح ترامب للمرة الأولى في انتخابات العام 2016 تشير إلى أنه سيفحص تكرار هذا الخيار جيداً، فإن الرئيس السابق سيتريث على الأرجح بعض الوقت قبل حسم موقفه، بانتظار اتضاح حجم تداعيات فترة حكمه على الحزب الجمهوري، فجميع المعطيات تدلّ على أن الأخير لن يخرج من أزمة الانتخابات من دون كلفة. من جهةٍ، هناك أنصار الرئيس السابق الذين يعتبرون أن الحزب تخلى عنه. ومن جهة أخرى، هناك من يعتقد أن "الفيل الأحمر" هادن ترامب كثيراً، ووقع في فخ عدم السماح بمعاقبته سياسياً. ولعل التسريبات عن المحادثات التي يجريها عشرات المسؤولين في إدارات جمهورية سابقة لتشكيل حزبٍ منشق، اعتراضاً على عدم الوقوف بوجه ترامب، بمثابة مؤشر على ما ينتظره الحزب في الفترة المقبلة، والتي سيراقبها الرئيس السابق جيداً، لمعرفة فرصه المستقبلية في العودة إلى البيت الأبيض.