مذكّرات جار الله عمر .. التاريخ بين مأساوي وتراجيدي
لا يَكتب المنتصرون دائماً التاريخ. يصحّ القول إنّ ذلك ينطبق على ما يحمله الكتاب الصادر حديثاً، "مذكرات جار الله عمر - الصراع على السلطة والثروة في اليمن" (دار المدى، بيروت، 2021). يقدّم الكتاب فرصة للحصول على توثيق متسلسل وسلس لشهادة السياسي اليمني الراحل جار الله عمر، للأحداث اليمنية والمحطات السياسية التي عايشها، وإن جاء صدوره بعد 18 عاماً على اغتياله.
من جهةٍ يعيد جار الله عمر في الكتاب التذكير بدروس الصراع في اليمن، واضعاً إياه في سياق الصراع على السلطة والثروة المحدودة، وداعياً إلى إعادة التوازن بينهما وبين إنتاج المعرفة وحمل السلاح لكي يتجنب اليمن العنف. ومن جهة أخرى، لا تقل أهمية، يسلّط جار الله عمر، عن قصد، الضوء على المراجعات التي أجراها هذا القيادي اليمني المحنّك الذي دافع عن القومية والاشتراكية، على مدى عقود من العمل السياسي والعسكري والنضال في شمال اليمن وجنوبه. وحدث ذلك كله من دون أن يتردّد في القول إنه دفع ثمن ذلك في كل مرة اختار فيها المجاهرة بآرائه والدفاع عنها ومحاولة تطبيقها، وصولاً إلى لحظة الاغتيال في صنعاء في ديسمبر/ كانون الأول 2002 التي وضعت حداً لملاعبته الموت ونجاته منه مرّات عدة، مثلما وضعت حداً لشهادته التي كانت توثقها الأكاديمية الأميركية، ليزا ودين، تمهيداً للكتاب الذي عهدت بمهمة تحريره وتقديمه للمؤرخ والكاتب فواز طرابلسي.
لم يكن الأمين العام المساعد السابق للحزب الاشتراكي اليمني، جار الله عمر، مجرّد راوٍ كان على هامش الأحداث اليمنية، بل كان غالباً في صلبها، منذ ستينيات القرن الماضي، بما في ذلك الانخراط المبكر في الدفاع عن الجمهورية بوجه الحكم الإمامي، مروراً بفترة سنوات السجن. ولاحقاً عايش وانخرط في محطات عدّة لا تقل أهمية، بما في ذلك حرب الشمال والجنوب، وبذور الخلافات بين رفاق الصف الواحد في الجنوب، وفشل محاولات احتوائها، وصولاً إلى أكثر المحطات الدموية المعروفة بأحداث يناير/ كانون الثاني (1986) التي نجا منها، وما أعقبها من مسار وحدوي متعجّل ثم تعثره، وحرب 1994 وما تلاها من منفى اختياري، بعد موقفه الرافض للحرب والانفصال في آن معاً، ثم عودته إلى النضال من الداخل حتى يوم الاغتيال.
وعلى عكس معظم الساسة اليمنيين في الشمال والجنوب، والذين وثّقوا مذكّراتهم، فأخفوا جزءاً من الحقيقة، أو في أقل تقدير احتفظوا بها، امتلك جار الله عمر جرأة المراجعة الفعلية للأحداث التي واكبها، أو ساهم في صنع عدد كبير منها، فلم يمنع نفسه عن الإقرار بارتكاب الأخطاء والندم عليها. ولعل في قوله عن نفسه "اعتدت أن أكون دائماً في الجانب الخاسر" إعادة تعريف واقعية لمفهوم الهزيمة والانتصار في اليمن، على قاعدة أن الاعتقاد بالنصر وهم، خصوصاً عندما تُشقّ الصفوف وتسيل الدماء ويموت الأبرياء.
كما يحضر الاعتراف المستفيض عن كيف عاش أزمةً شخصيةً بين قناعاته التي كانت بمثابة مسلمات والوقائع على الأرض، ليشكل ذلك كله صراعاً فكرياً لديه قاده إلى المراجعات التي جعلته السبّاق في طرح أفكار عدة بشأن الإصلاح ونقد المسار السياسي في الجنوب الديمقراطي ودفاعه عن أن "الاشتراكية لا يمكن أن تكون عدوة للديمقراطية"، وعن أهمية التعدّدية السياسية وتطوير رؤيته لها، وصولاً إلى الانتقال من صوغ المبرّرات لمنع الإسلاميين من المشاركة في التعدّدية إلى الاعتراف بأهمية مشاركتهم فيها، قبل أن يقود الحزب الاشتراكي إلى التحالف معهم (حزب التجمع اليمني للإصلاح) في وجه علي عبد الله صالح، ويلقى حتفه من على منبرهم.
ولعل الدرس الأول والأهم الذي فطن له جار الله عمر أن "التاريخ ليس فيه لو". أما الدرس الآخر، فإن "التاريخ في اليمن يكرّر نفسه أكثر من مرة، ولكن على عكس ما يقول ماركس: "في المرة الأولى مأساوي وفي الثانية ملهاة ومهزلة مضحكة". وبالنسبة إلى جار الله عمر "كان (التاريخ) في يناير 1986 مأساوياً، وفي عام 1994 كرّر التاريخ نفسه، بحيث لم يكن قادراً على القول إنه مأساوي أو تراجيدي".