مسارحُ الجنوب في عالم متغيّر
التأمت في طنجة، أقصى شمالي المغرب، الدورة 17 لمهرجان طنجة الدولي للفنون المشهدية، وينظمه المركز الدولي لدراسات الفرجة. وقد عزّزت هذه الدورة، التي نُظمت تحت شعار ''مسارح الجنوب عبر العالم: رؤى لا كولونيالية''، مكانةَ المهرجان في المشهدين الثقافيين، المحلي والجهوي، ما يعتبر مكسبا ثقافيا لمدينةٍ مغربيةٍ ظلت دائما جسرا للتفاعل بين مختلف الثقافات والحضارات. ووُجّهت الدعوة إلى فنانين وخبراء وباحثين في المسرح وفنون الأداء والفرجة، وكُرِّم المسرح الوطني السعودي ضيف شرف. وإضافة إلى العروض المسرحية المفتوحة، تضمّن البرنامج محاضراتٍ وندواتٍ وأوراقا علميةً وورشا وتوقيعَ كتب، في مسعى إلى مطارحة التحدّيات التي تجابه المسرح في بلدان الجنوب، في ضوء ما يشهده العالم من متغيرات، يرتبط جزءٌ منها بسياسات الهيمنة الثقافية التي تقودها المركزية الغربية، بما يسمح لها بالاستمرار في التحكّم في حركة الأفكار وتأكيد التفوق الثقافي والفكري للغرب.
من هذا المنطلق، تصبح مسارح الجنوب فعلا ثقافيا واعيا يتوخّى إنتاج سردياتٍ موازية أو مضادّة للسردية الغربية التي يقع المسرح ضمن أولوياتها الثقافية الرئيسة. ويصبح الفعل المسرحي، بمختلف تنويعاته، وسيلةً لإعادة التوازن إلى العلاقات المختلة بين الغرب وهوامشَ تنحصر مساهمتها الثقافية والحضارية في استهلاك المنظور المسرحي الغربي وإعادة إنتاجه ومُجانسته بآليات محلية تفتقد الأصالة وروح المكان. يتعلق الأمر بمقاومةِ حالةٍ كولونياليةٍ جديدةٍ تتغذّى على الأوضاع المزرية التي توجد فيها معظم بلدان الجنوب، غير أن هذه المقاومة محكومة، حسب ما جاء في بعض الأوراق، بالتوتر بين الماضي والحاضر، ما قد يحول دون ذهابها بعيدا في معالجة الأسئلة والقضايا ذات الصلة بالهوية والمتخيل والذاكرة والجسد والمكان والآخر. لكن ذلك لا ينبغي أن يحول، حسب أوراق أخرى، دون توسيع قاعدة الوعي بدور هذه المسارح، على اختلاف خياراتها الفنية والجمالية، في تفكيك الخطاب المسرحي الكولونيالي وكشف حقيقته، بتسليط الضوء على التنوع الثقافي والحضاري الذي تزخر به بلدان الجنوب، وبالأخص على صعيد أشكال الفرجة المختلفة، باعتبارها أشمل من المسرح كما عرفته الثقافة الغربية.
لم تكن العولمة، بالنسبة لهذه البلدان، مجرّد تحدٍّ اقتصادي، بل كانت، أيضا، تحدّيا معرفيا وثقافيا، ما فرض على مسارحها مجابهتها، من خلال استدعاء الثقافات المحلية وإبراز قدرتها على تعزيز الشعور بالهوية الوطنية، بالتوازي مع مقاومة محاولات التنميط والتهجين والمجانسة القسرية التي تتخفى خلف الخطاب الثقافي الغربي. ومن ذلك توظيف التراث غير المادي، من أساطير وأشعار ومرويات وأمثال شعبية وموسيقى، بوعي فكري ونقدي حريص على تمثّل مقتضيات العصر ورهاناته، من دون تجاوز الهوية الوطنية وإعادة تأهيلها مجتمعيا وثقافيا، في سياق مواجهة تغوّل الرأسمالية الجديدة.
في السياق نفسه، تناولت بعض الأوراق عبور التجارب المسرحية الحدود، وتأثير ذلك على الهوية، وما يتفرّع عنها من قضايا وأسئلة، تساهم في إعادة السؤال الكولونيالي، سواء فيما يتعلق باستعادة ذاكرة المسارح التي أسّست خلال فترة الاستعمار (مسرح ثربانتيس في طنجة الذي يعود تأسيسه إلى 1913)، أو فيما يتعلق بتوطين النصوص المسرحية الكونية وإعادة كتابتها برؤية مسرحية محلية، بما يسهم في تغذيتها باجتهادات فُرجوية مغايرة، هذا من دون إغفال التحولات التي تشهدها المسارح الوطنية، والتي تشتبك بقضايا الهوية والتعدّدية الثقافية وعلاقات القوة التي تتأسّس بالتوازي معها، وما يترتب على ذلك من ضرورة إعادة تعريف الهويات الكبرى الجامعة وتركيبها.
تواجه مسارح الجنوب تحدّياتٍ جديدةً تفرض تجاوز سياسات المسارح الوطنية التقليدية المنتظمة حول تعزيز الهوية الوطنية، نحو رؤيةٍ مسرحيةٍ أكثر شمولية، تأخذ بعين الاعتبار التوترات الكبرى التي تخترق المسألة الثقافية، وتفكيك أنساق الهيمنة الثقافية الغربية، وإعادة طرح أسئلة التأصيل والهوية والاختلاف.