مصائب إسرائيل وكوارثنا
ليت المتنبّي لم يقلها، وليتنا لم نسمعها؛ لأنّ "مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد"، لم تعد وقفاً على زمن محدّد بظروف ذاتية وموضوعية لا تنسحب إلا عليه، بل غدت عابرة للزمن العربيّ، تصلح لازدهار تجارة التوابيت، مثلما تصلح لمن ينتظرون "زوال إسرائيل" بحرب أهليّة على خلفية مشروع "التعديلات القضائية"، التي أشعلت الشارع الإسرائيلي، أخيراً، بتظاهراتٍ غاضبة غير مسبوقة، فرح بها القوم الذين ينتظرون "مصائب قوم"، ليجنوا منها فائدة واحدة، على اعتبار أنّ "الانتظار" هو ما تبقى لهم من سلاحٍ يراهنون عليه في مواجهة هذا العدوّ الذي كسب كلّ جولات الحرب والسلم ضدهم.
حقّا، لماذا فرح العرب بهذه التظاهرات، ولماذا اعتبرها بعضهم مقدّماتٍ لزوال إسرائيل؟ هل كانوا يراهنون، فعلاً، على اندلاع حرب أهلية داخل هذا الكيان تطيح بالطرفين معاً، وتمهد الطريق لـ"تحرير" أبيض، نظيف، لا تُراق فيه الدماء، ولا يستوجب إطلاق رصاصة واحدة، بل كل ما على "القوم" أن يجتازوا "مسافة السكّة"، ليكونوا هناك في القدس، فاتحين، مظفّرين.
ربما، غير أن ثمّة متشائمين من أمثالي، حاولوا أن ينظروا في ما يحدث داخل إسرائيل بعيون أولئك "المتربّصين"، فلم يروا ما رأوه، بل على العكس، فقد رأيتُ، وليعذرني قومي، سبب انتصار إسرائيل علينا في كلّ حروبها، وهو "الحرية".
رأيت مجتمعاً لا يُساوم على حريته حتى لو اقتضى الأمر أن يملأ الشوارع عن بكرة أبيها أياماً متواصلة. رأيته يحاصر مقر إقامة بنيامين نتنياهو ويجبره على الهرب من بيته إلى مقرّ "الشاباك" لحمايته وأسرته من غضب المتظاهرين. ورأيتهم يغلقون الشوارع والمطارات، ويعلنون إضراباً عاماً تشارك فيه كل القطاعات، وطيارين يرفضون نقل نتنياهو إلى زياراته الخارجية، رأيت تحدّياً، وكسر عظم، وإصراراً على المضي إلى آخر الشوط من دون كلل أو ملل.
زاد من دهشتي أن هذه التعديلات القضائية لا تمسّ الفرد الإسرائيلي، المحصّن والمدلّل بقوانين الحماية والقداسة، بقدر ما هي موجّهة، أصلاً، ضدّ الفلسطينيين، لا سيما المقاومين والأسرى منهم، الذين قد تصل عقوبتهم حدّ الإعدام في التعديلات، لكنّ المتظاهرين، وإن كانوا يباركون، في أعماقهم، التضييق على الفلسطينيين، أرادوا للقضاء أن يبقى حرّاً، مستقلّاً، لا يسمح للسلطة التنفيذية بأن تتغوّل عليه، فذلك من أبسط مبادئ الديمقراطية القائمة على فصل السلطات، فقد، أدركوا بحكم "حرّيتهم"، أن فتح الباب أمام التدخّل في السلطة القضائية، قد يجرّ لاحقاً إلى تدخلاتٍ أكبر وأفظع، ما يطيح بالدولة الديمقراطية ذاتها، ويهيئ مناخاً ملائماً للاستبداد والطغيان.
ذلك ما رأيته، فعلاً، بعيونٍ حزينة منكسرة، وعرفت فيه سرّ تفوّق إسرائيل علينا قديماً وحديثاً، ولو تحرّيتُ المكاشفة والمصارحة، لقلت إن إسرائيل انتصرت علينا بالحرية، حتى في المعارك الكبرى، ومنها حربا "النكبة" و"النكسة"، وغيرهما، ففي خضم حروبها تلك، كان الفرد الإسرائيلي يذهب إلى صناديق الاقتراع، لانتخاب نوّابه في الكنيست، وكان يتظاهر كلما أحسّ أن حرّيته مهدّدة. ولذا كان يذهب إلى الحرب دفاعاً عن حرّيته أولاً، قبل وجوده على الأرض التي اغتصبها؛ لأنه يدرك أن حرب الوجود بالنسبة له لا انتصار فيها بغير الحرية.
على ذلك، يعود المتظاهرون الإسرائيليون إلى بيوتهم، وقد حقّقوا انتصاراً داخليّاً في هذه الجولة المصيرية، لا لأنفسهم، بل لحرّيتهم التي يعدّونها خطّاً أحمر لا يحقّ للساسة أن يتجاوزوه أو يعبثوا به.
وعلى ذلك، أيضاً، ينبغي ألّا نفرح لهذه المشاهد، بل الأحرى أن نولول ونلطم؛ لأن مصيبتنا أعظم ما دمنا ننتظر فقط، وما دمنا لا نراهن إلا على "أسبابٍ" تتعلق بالخصم، لا بنا نحن الذين تعوّدنا على ردّات الفعل لا على الفعل نفسه... وعلينا أن نحزن، لأنّ السلطات عندنا تختلط مثل صحن السَّلطة، ولا يفوز فيها غير الجبابرة والمستبدّين.
علينا أن نحزن لأننا نشاهد بأمّ أعيننا أن السبب الذي نصَرَهم علينا كان هو السبب نفسه الذي هزَمَنا أمامهم، فهم انتصروا بالحرية، ونحن انكسرنا بغيابها، وكفى.