مقاطعة بالإجبار
تنشط في بغداد وبقيّة المحافظات العراقية حملاتٌ لمقاطعة البضائع التي تنتجها شركاتٌ داعمة لإسرائيل، وكما في بلدان عربية أخرى، فإنّ مقاطعة علامة بيبسي التجارية صبّت في مصلحة علامة تجارية أخرى للمشروبات الغازية هي شركة سينالكو، التي ضاعفت إنتاجها لتلبية الطلب المتزايد في السوق المحلّية، خصوصاً، في المطاعم والمقاهي.
لا يمكن تحديد نسبة المقاطعة للعلامات التجارية الداعمة لإسرائيل، ومدى انتشارها. ولكن من الواضح أنّ نسبة كبيرة من المقاطعين مواطنون تأثّروا بالأحداث، واتخذوا هذا القرار بقناعة وبحرّية تامّة. غير أنّ هناك من تأثّر بحملات المقاطعة التي تدعمها مُنظّمات مجتمع مدني أو أحزاب وتيّارات سياسية. وفي كلّ الأحوال، يأخذ فعل المقاطعة قيمته من حرّية الاختيار التي يتمتع بها الإنسان، ولا معنى للمقاطعة حين تكون بالفرض.
ولكن جماعات مُسلّحة أغلقت، الأسبوع الماضي، مطاعم تحمل علامات تجارية أميركية في بغداد، مُستخدمةً الهراوات والعصي لتكسير الزجاج والأثاث، وإرهاب المواطنين من العوائل التي كانت تتناول العشاء في هذه المطاعم، ما أدّى إلى حالة من الذعر والفرار من المكان، ولم تفعل الشرطة العراقية أيّ شيء لإيقاف هذه الهجمات، التي صارت تتكرّر على مطاعم أخرى في بغداد، أو بعض المحافظات.
تُسمّي وسائل الإعلام القريبة من التيّارات "الولائية" هؤلاء المسلّحين بـ"مواطنون غاضبون". غيرَ أنّ الجميع يعرف أنّهم مُجرّد أعضاء في مليشيات مُسلّحة، وعلّق بعض المدوّنين ساخراً، أنّ هؤلاء "المواطنين الغاضبين" أغلقوا مطاعم بعلامات تجارية أميركية، باستخدام أسلحة أميركية، وكانوا يحملون تلفونات أميركية، وكانت السيّارات التي استقلوها، وصوّرتها كاميرات المراقبة، سيّارات أميركية (!). وتزداد المفارقة حين نعرف أنّ هذه المطاعم لم تأخذ امتيازاً من الشركات الأميركية الأصلية، بمعنى أنّها مطاعم غير مُعترَف فيها أو "مُزوّرة". فضلاً عن أنّ هذا الإغلاق "الإرهابي" للناس وللعوائل ينسف الجوهر الأخلاقي لفعل المقاطعة، من أنّه اختيار حرّ.
وصْفُ "الإرهابي" تردّد في تعليقات بعض الأحزاب المكوّنة للائتلاف الشيعي الحاكم على هذه الأحداث، ليشتعل السجال بين الأطراف الشيعية أنفسها، وتطفو الانشقاقات القائمة بينها وتصبح ظاهرة للعيان أكثر؛ فهناك من هذه التيّارات السياسية من هو في قلب العملية السياسية وداعم للحكومة، ويحظى بامتيازاتها، ولا يريد إقلاق المجال العام، ويحاول تسويق نفسه للجمهور من خلال حكومة محمد شيّاع السوداني وانجازاتها. وهناك، على الطرف المُضادّ، من يرى نفسَه مقصيّاً ومُبعداً من هذه الامتيازات، ويريد المزايدة على الطرف الحكومي بالمقاومة والثورة ودعم القضايا العادلة، كما هي قضية غزّة، والشعب الفلسطيني عموماً.
هذه السجالات، ثمّ الانشقاقات، انتقلت الى المُدوّنين العاملين مع كلا الفريقَين، فرأينا من كانوا أمس جبهة واحدة ضدّ المدنيين، ومتظاهري تشرين (2019)، يكيلون التهم الجاهزة بالتخوين والعمالة للشباب المُتظاهرين، يوجّهون الآن سهامهم لصدور بعضهم بعضاً. المشكلة (وربّما المفارقة المحزنة) أنّ هذه السجالات، أو حتّى الصدام المُسلّح، الذي يمكن أن يحدث بين هذَين الطرفَين، هو أمر يحدث بين أطراف في "بانثيون" السلطة، هناك، في الأبراج العالية، ولا شأن للمواطن العادي به، فكلا الطرفَين يملك السلاح ويمارس، عند الحاجة، مختلف أشكال الإرهاب الرمزي والمعنوي والمادّي تجاه المواطن.
لقد أُقصي المواطن العادي، وبعنف، من الاهتمام بصراعات السلطة، هذه، لأنّها صراعات بين أطراف استبدادية، لا تحترم حياة الإنسان ولا رأيه، ولا تقيّم نفسها بناءً على رأي المواطن وإرادته السياسية الحرّة. وللأسف، فإنّ الأطراف الموجودة داخل دائرة السلطة، وتلك التي في خارجها، لديها أدوات وتصوّرات متشابهة، ومنها أنّهم جميعاً يهتمّون بالمماحكات في مستوى معيّن، ولا يريدون الصدام المباشر، كما أنّ الطرف الحكومي غير معني بتطبيق القانون ضدّ من يخرقه، ويفضّل إنجاز تسويات خلف الأبواب المُغلقة.
المشكلة (وربّما المفارقة المحزنة) أنّهم يتصوّرون صمت المواطن الخائف موافقة أو تأييداً، وأنّ عدم اعتراض الناس يعني أنّ لديهم شعبية حقّاً بين الجمهور العام.