مهزلة الرصيف العائم
اعتمدت إسرائيل، منذ بدء عدوانها على قطاع غزّة، سياسةَ الإبادة والتجويع فيه. منعت الشاحنات التجارية من دخوله، وكذلك المساعدات الإغاثية. وفي الفترات التي سُمِح فيها بدخولها كانت تمرّ بالقطّارة، وما كان يدخل على مدى أسابيع لا يلبّي احتياجات يوم، حتَّى تحوّلت المجاعة إلى حقيقةٍ ماثلةٍ أمام أعين الجميع.
تعالت أصوات دولية وعربية عدّة تطالب بكسر الحصار المفروض على أكثر من مليوني فلسطيني، جُلّهم أصبحوا من المهجّرين، وبلا مأوى، ولا يجدون ما يعينهم في بقائهم على قيد الحياة. وانبرت دولٌ لاستعراض إسقاط المساعدات عبر إنزالات جوّية. شكّل هذا الأسلوب فضيحة، لأنّ المساعدات إمّا كانت لا تغطّي ما يحتاجه الفرد الواحد أو لأنّ جزءاً منها كان يسقط في البحر، وحتّى أنّ بعضها تسبب في مقتل غزّيين جرّاء سقوطها عليهم.
وإذا كانت مهزلة الإنزالات الجوّية غير كافية، فإنّ فضيحة الرصيف الأميركي العائم حاضرة أيضاً، وبقوّة، هذه الأيام. روّجت أميركا، تحديداً، على لسان رئيسها جو بايدن، منذ مارس/ آذار الماضي، لأهمّية الرصيف العائم، وما سيشكّله من فرصة لتسهيل دخول المساعدات، التي تصل إلى قبرص أولاً، وتخضع لتفتيش إسرائيلي وأميركي، قبل أن تُبحر باتجاه غزّة. واستغرقت القوات الأميركية قرابة شهرين للانتهاء من بنائه في منتصف شهر مايو/ أيار الماضي، بكلفة قيل إنّها تتجاوز ثلاثمائة مليون دولار، وبمشاركة ألف جندي أميركي، لكنّ العمل به لم يدم أكثر من 12 يوماً، بعدما تداعى الرصيف بفعل الأمواج، لتعلن القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم)، سحبه للعمل على إصلاحه، ثمّ إعادته إلى الخدمة، على أمل أن يدوم العمل به أكثر من أسبوعين في المرّة المقبلة، وأن يتجاوز عدد الشاحنات التي خرجت منه أكثر من 137، أي بمعدلٍ لا يتجاوز 14 شاحنة في اليوم.
أكثر من ثمانية أشهر من العدوان والمعاناة يفترض أن تكون كافية للوصول إلى خلاصةٍ مفادها أنّه لا يمكن تجاوز المعابر البرّية، إذ تبقى المعابر، رغم العراقيل والمصاعب، الخيار الأنسب في ظلّ المأساة المستمرّة في القطاع، فالرصيف العتيد، وبحسب الأمم المتّحدة، يبعد عن الأماكن التي تعدّ أكثر احتياجاً للمساعدات، وبالتالي، المسافة غير الطويلة، نسبياً، في زمن السلم، بعيدة وصعبة في زمن العدوان الإسرائيلي والغارات والإبادة. ويكفي تخيّل عدد نقاط العبور التي يتعيّن على كلّ شاحنة عبورها، وعمليات التنسيق التي يفترض أن تقوم بها وكالات الأمم المتّحدة، التي تتسلّم المساعدات لهذه الغاية. كما يجري التغافل، عمداً، عن حقيقة ما تتطلّبه هذه العملية، أيضاً، من استهلاك إضافي للوقود الذي بالكاد يُسمح بدخوله إلى القطاع.
لا يمكن القول إنّ الولايات المتّحدة لم تكن تدرك جميع هذه الاعتبارات عندما اختارت إنشاء الرصيف العائم، وإذا كانت تسعى لحفظ ماء وجهها جرّاء الاتهامات لها بالمشاركة في إبادة أهالي قطاع غزّة وتجويعهم، فإنّ الرصيف لم يحقّق لها هذه الغاية، بل على العكس يعزّز الشكوك، ليس بشأن جدواه فقط، بل بشأن أهدافها من إقامته.
الحديث اليوم عن الحاجة إلى سبعة ملايين وجبة طعام، يومياً، من أجل توزيعها على المهجّرين في قطاع غزّة، وبطبيعة الحال، فإنّ تحقيق هذا الرقم بعيد المنال، والمأمول إيصال الحدّ الأدنى من المساعدات إلى القطاع، لكنّ هذا الأمر لا يبدو أن الاحتلال بوارد السماح به طالما أنّه يركن إلى حجم التراخي في التعامل معه، ويضمن أنّ هناك من يصدّق سردياته، على غرار ما زعمه بنيامين نتنياهو في مقابلة تلفزيونية ستبثّ الأحد، ونشر موقع بوليتيكو، الأربعاء الماضي، مقتطفاتٍ منها، من أنّه لا يمنع المساعدات عن غزّة، وأنّه يتم تقديم نصف مليون طنّ من الغذاء والدواء إلى القطاع، لا بل ذهب بعيداً في وقاحته للقول إنّ هناك الكثير من الطعام في غزّة، وإنّه يتم توفير ثلاثة الآف سعرة حرارية للشخص الواحد، بما يفوق المتوسّط المطلوب بألف سعرة.