هوامش من وقائع عربية
لكل واقع (حال) أزمة رواياتٍ متعدّدة. يحدُث، في أحيانٍ، أن يتلاقى سرد الوقائع الرئيسية أو يتقاطع، ولكن اختلافات تظهر دائماً، فكل حادثٍ هو تجربة شخصية مختلفة في كيفية النظر إليها. قد لا تكون العوامل التي تشكل فهم الحدث لشخصٍ ما نفسها للشخص الآخر. فما يُستدعى من تفاصيل راهنة، وأخرى من الذاكرة أو من التجارب، جميعها عواملُ تساهم في تشكيل تفسير قد يكون مغايراً من شخص إلى آخر. لكن ذلك كله لا يعني أنه لا يوجد حدٌّ أدنى من الأساسيات المفترض أن تكون وقائع يسلّم بها لا تخضع للتأويل والتشكيك. ويفترض أن تكون هذه الأساسيات المحرّك للتمييز بين الحق والباطل، الحقيقة والوهم. وإذا كان المنطق يفترض أن ينطبق هذا الأمر على الأحداث الكبرى، السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية، فذلك قد لا يحدُث بالضرورة.
يمكن التوقف مثلاً عن محاولة تفسير غياب/ تغييب الديمقراطية عن معظم البلدان العربية اليوم الواقعة تحت رحمة أنظمة ديكتاتورية وقمعية وانقلابية، من سورية إلى تونس ومصر والسودان، فيما يغرق قسم على الآخر في الفوضى السياسية، من ليبيا إلى اليمن ولبنان ...
يمكن استدعاء قائمة لا تنتهي من التفسيرات بشأن وقائع الدول العربية اليوم وتوصيف طبيعة أنظمة الحكم فيها وكيف تؤثر في تغييب الديمقراطية. يحيل بعضهم إلى الإرث الاستعماري وما تركه من تأثيراتٍ على البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأنه المسؤول الأول عن تشكّل أنظمة حكم قمعية واستبدادية قابلة للتحكّم بها. ويعيد آخرون الأمر إلى الإرث الطويل من الاقتتال والنزاعات الأهلية التي تستنزف البلدان ومواردها. ويُنتج ذلك كله نخباً حاكمة فاسدة ومتسلطة، تبذل الغالي والنفيس لضمان البقاء في السلطة أكثر فترة ممكنة، وتدمير أي مؤسّسات حقيقية، وخنق جميع الحريات وإغراق الشعوب في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. ولذلك، اقتران غياب الديمقراطية بانعدام المساواة وتزايد الفجوات الاقتصادية والاجتماعية وظواهر الفقر والبطالة وتراجع التعليم عوامل مشتركة في البلدان العربية.
ويحلو لبعض آخر أن يرمي مسؤولية كل هذا الواقع على التدخل الخارجي والانحياز أو التعاطي مع الحكام الديكتاتوريين، وغضّ النظر عن الجرائم التي يرتكبونها بحق شعوبهم، طالما أنهم يلبّون مصالح الخارج. ويستحضر آخرون دور النخب العسكرية في الحكم، خصوصاً أن الانقلابات أولى ضحاياها عادة مع تكوّن الحكومات وإلغاء الإرادة الشعبية التي عُبٍّر عنها في صناديق الاقتراع مع كل ما يستدعيه واقعٌ كهذا من سيطرة على السلطة لضمان التفرّد بالحكم، سواءُ عبر تقييد الحريات السياسية وتحويل البلاد إلى سجن كبير، تمنع فيه الأصوات المعارضة، ومن لا يخضع للترهيب يُزجّ في المعتقلات، ويخضع للتعذيب والموت البطيء بشتى أنواع الإهمال، أو عبر الانتقال إلى السيطرة على الموارد الرئيسية لضمان نفوذ اقتصادي والتحكّم بالثروة العامة وتحويلها إلى ثروة خاصة.
وإذا كان مسلّماً به أن هذه العوامل، بمفردها أو مجتمعة، تتداخل لإنتاج الظروف المواتية للديكتاتورية، وإنْ ينطبق بعضها على بلد دون الآخر، فإن من المسلم به أيضاً أن عكس هذا المسار ليس مستحيلاً، لكنه أيضاً ليس يسيراً. لا يحدُث انهيار الأنظمة الدكتاتورية/ القمعية من تلقاء نفسه، بل يرتبط بشكلٍ وثيق بالعوامل نفسها التي سمحت بنشوئها، ولكن باتجاه عكسي، بما يتيح زعزعة استقرارها وتوظيف مختلف الظروف بما يجعل استمرارها غير ممكن. يبقى أن العامل الأهم هو عدم الاستسلام للواقع مع ما يتطلّبه هذا الأمر من وجود نخبٍ مدركةٍ أهمية دورها ونضالها في إبقاء المطالب بالحرية والديمقراطية، رغم ما تستدعيه من البقاء في حالة مواجهةٍ دائمة.