ينتصر في المعركة من يعلو صوته فوقها
في سلسلة وثائقية بعنوان "الأحداث الكبرى في الحرب العالمية الثانية بالألوان"، إنتاج ألماني إنكليزي أميركي مشترك، نشهد حسا نقديا غريبا على عاداتنا العربية التليدة.
البداية من استقالة رئيس الوزراء البريطاني، نيفيل تشامبرلين، عام 1939، فور احتلال ألمانيا النرويج، بعد أيام من تلويحه، حين وصل إلى لندن عائداً من لقاء هتلر، بورقة تعهد له فيها نظيره الألماني بوقف توسّعه. كان هذا في بداية الحرب، ولم تتعرّض فرنسا بعد للهزيمة ولا انسحبت القوات البريطانية من أوروبا، ولكن لم يتم التمسّك بالزعيم بحجّة الوقت الحرج. لقد تعرض للخداع، وهذا يكفي لرحيله، فاللوم لا ينصبّ على الخصم ضمن أحكام أخلاقية حول الخسّة والنذالة، بل يتحمل المخدوع نتيجة حماقته.
يقدّم الوثائقي رواية المنتصر، لكنه لم يخلُ من نقدٍ حادٍّ لممارساتٍ مثل قصف المدن الألمانية، خصوصا ما حدث في دريسدن. ولافتٌ أن الحدث حظي، في وقته، بانتقاداتٍ حادّة في الصحف البريطانية والأميركية، والتي لم يمنع الرقيب العسكري فيها نشر الصور المروعة لقتل المدنيين الألمان. لم يُتهم الصحافيون بنشر دعاية نازية في زمن الحرب.
اضطر تشرشل لإلقاء اللوم على قائد سلاح القاذفات، آرثر هاريس، ولاحقا كان هاريس قائد الحرب الوحيد الذي لم يُكرم بعد رفضه الدعوة بسبب رفض الحكومة إصدار "وسام حملة" خاص بسلاحه أسوة بباقي أسلحة الجيش.
قائد آخر حظيت سيرته بالجدل، هو الجنرال الأميركي جورج باتون. كان قائد أول وحدة مدرعات أميركية، وحقق إنجازات بارزة في الحربين العالميتين وما بينهما. وعلى الرغم من ذلك، خسر مقعده الرئيسي في القيادة عام 1943، لأنه في أثناء زيارة جنود مستشفى، وبّخ اثنين من المصابين بصدمات عصبية، واتهمهما بالجبن. وفي نهاية 1944، تم استدعاؤه من مقرّه الهامشي لصد هجوم ألماني في "الأردين" في بلجيكا. وهنا يذكر الفيلم شهادات حول ارتكاب رجاله جريمة قتل أسرى حرب ألمان، ردّاً على قتل الألمان أسرى حرب أميركيين في مذبحة مالميدي. تم إعلام باتون بالواقعة، فاكتفى بالتشديد على إخفاء ما حدث.
ركّز الوثائقي أيضا على تهاون القادة الغربيين مع أهوال معسكرات "الهولوكست"، ثم على التساهل المتعمّد مع مجرمي الحرب النازيين، تحسّبا للحاجة إليهم لمواجهة الشيوعية. مارست الولايات المتحدة ضغوطا على دول أوروبية لتبرئة النازيين. للمفارقة، حظي يوخايم بيبر، قائد المدرّعات الألماني البارز، والذي كانت وحدته مسؤولة عن مذبحة مالميدي ضد الأميركيين، بمعاملة مميزة، حيث خفّفت لجنة مراجعة عسكرية أميركية حكمه مرتين، وتم إطلاق سراحه بعد نحو عشر سنوات فقط.
يمكن رصد الروح النقدية ذاتها على أصعدة مختلفة، منها على سبيل المثال متحف "الحرب الإمبراطوري" في لندن، والذي تم تصميمه لتنفير الزوّار من الحروب، وليس الاحتفاء المطلق بأمجاد المنتصرين. في المتحف، نجد رسائل جنود يتحدّثون لعائلاتهم عن خوفهم، وعن رغبتهم في العودة إلى المنازل. نشهد دعاية لتشجيع المُحجمين عن الانضمام لسلاح البحرية خوفا من الطوربيدات الألمانية. نشهد نماذج لمعلبات طعام الجنود الرديء، ولملابسهم الخشنة، حيث يتاح للزائر تجربة تلك الأجواء داخل مجسّمات للملاجئ... هو التركيز على "أنسنة المقاتلين" حيث هم بشر يخافون ويتألمون. وبالطبع من قبل ذلك أنسنة الحكام، حيث هم بشر يخطئون ويحاسبون.
خسر تشرشل الانتخابات التي عُقدت بعد أشهر قليلة من انتصاره المدوّي، لم يُكرّمه الشعب على إنجازه. وفي المقابل كان سجل القادة الألمان واليابانيين خلال الحرب على النقيض، حيث تغيب المحاسبة، ويتم إخفاء المعلومات. تم التمسّك بقائد البحرية الياباني الذي خسر كل حاملات طائراته في معركة واحدة في ميداوي. وكذلك لم يراجع أحد نتائج هجوم "الأردين" الفاشل الذي أمر به هتلر على عكس رغبة قادته.
من المخجل إسقاط تلك النماذج على الواقع العربي، حيث يغيب الحسّ النقدي عن معاركنا القديمة والحديثة كافّة، فكل انتصار حدث لأن "جُندنا هم الغالبون"، وكل هزيمةٍ حدثت بسبب الخيانة أو بسبب الظروف الخارجية. النقديون هم فقط من ينتصرون.