28 يناير 2024
فلسطين من النهر إلى القبر
في الآن الذي كان فيه الأمن الأردني يلقي القبض على عشرات الناشطين المطالبين بإسقاط اتفاقية استيراد الغاز المسال من الكيان الصهيوني، وكانوا يهتفون: "غاز العدو احتلال"، كانت مظاهرات موازية يستحضرها التاريخ العربي في حقبتي الخمسينيات والستينيات، تنادي بإسقاط الكيان الصهيوني نفسه، ويعتقل ناشطوها، كذلك.
التظاهرات نفسها، وسلالة الناشطين، لم تتغير، بل كل ما تغير فلسطين ذاتها، التي لم تعد تُنظم التظاهرات لتحريرها، بل لإسقاط اتفاقياتٍ جزئيةٍ مع محتليها، لا تقدّم ولا تؤخر، ما دام القبول بالمحتل أصبح أمرًا واقعًا، ومعترفًا به، على الأقل من الأنظمة العربية، وتجار السلام الذين كانوا قبل ذلك تجار الحرب أنفسهم.
مطلوب، إذن، من المعارض العربي أن يقلص شعاراته، على مدار اليوم، ليُرضي أنظمته، فيما تمطّ الأنظمة شعاراتها، لتبتلع المعارضات كلها، وتتفرد بقراراتها و"أحلامها" التي لم تعد تتسع لها منظومة القمع العاشرة بعد الألف.
مطلوبٌ، أيضاً، أن تتقلص فلسطين في أعين الشعوب العربية، إلى أقل من "ميدالية" مفاتيح سيارة حتى، لأن هناك من الأنظمة العربية من يطارد حامل هذه الميدالية بذرائع شتى.
ربما كان قدَرًا جغرافيًّا أن تبدأ فلسطين نهرًا وتنتهي بحرًا، على اعتبار أن الحلم يبدأ صغيرًا وينتهي كبيرًا. لكن، في الحلم العربيّ، تحديدًا، ينعكس المحتوى الذي يبدأ كبيرًا وينتهي صغيرًا، ففلسطين بدأت بحرًا وانتهت نهرًا، بل ربما أقل من مجرى مائي هزيل، بعد أن استولت إسرائيل على معظم مياه النهر.
ويحضرني، في هذا المقام، بطل غسان كنفاني، ذلك الفلسطينيّ المرهق الذي سافر إلى الكويت، بحثًا عن "الثروة"، وكان في ذهنه أنه ما أن يطأ أرض المطار، حتى تنهال عليه أمطار الذهب والفضة، لكن بعد سلسلة خيبات وأبواب مغلقة في وجهه، كان على استعدادٍ لأن يعمل بوابًا، في سبيل البقاء على قيد الحياة، لا أكثر. وفي النهاية، لم يفلح بإيجاد أي عمل، ليضطر بعدها إلى مغادرة الكويت. وفي الطريق إلى المطار، استوقفه مشهد بائعي المحارات المغلقة على الشاطئ، فالتمعت عيناه، وتوهج الحلم في قلبه، ثانيةً، وهرع إلى أحدهم، فاشترى منه كمية المحار كلها التي كان يعرضها البائع أمامه، وطلب منه أن يفتحها بسكّينه، واحدة تلو الأخرى.
ومع كل محارةٍ يفتحها البائع، كان صاحبنا يتوهج ثم ينطفئ، حين يجدها فارغةً من حبة اللؤلؤ التي كان يبحث عن التماعتها، إلى أن وصلت السكين إلى المحارة الأخيرة، فسقط صاحبنا ميتًا قبل أن يفتحها البائع.. هكذا يتقلص الحلم من ثروةٍ إلى محارة، وقد ترك غسان كنفاني النهاية مفتوحةً، لأن القصد لم يكن اللؤلؤة المفقودة، بل الحلم الذي مات في قلب صاحبه.
على هذا الغرار، تقلصت فلسطين، في أعيننا، وفي هتافات المتظاهرين، بعد أن بدأت بشعار: من النهر إلى البحر"، ثم "من النهر إلى الخط الأخضر"، ثم إلى "غزة أولًا"، وربما "أخيرًأ"، وها هي تصل الآن إلى: "فلسطين من النهر إلى الغاز"، وفي جميع تلك الشعارات، يتضاءل الأمل، وصولاً إلى رهانٍ خاسر على محارةٍ مغلقةٍ خير لنا أن نسقط ميتين، قبل أن نفتحها.
أما خاطفو الحلم فما أكثرهم، خصوصًا ممن قبلوا على أنفسهم أن يجعلوا من فلسطين مقاطعاتٍ معزولة، وأصبحت المدن الفلسطينية "مستوطنات" للفلسطينيين، وسط جغرافيا يهودية، تحاصرهم من كل الجهات، فيما ينحصر نشاط زعمائهم في قمع التظاهرات المطلبية والسياسية على حد سواء، وتقديم التعازي الحارّة بمن ينفق من أسيادهم في تل أبيب.
كانت المسافة بين النهر والبحر شعارنا، فاكتشفنا، بعد طول خديعةٍ، أنها لم تكن غير شعار المحتل نفسه، بمساندة "محتلين" آخرين من بني جلدتنا الذين سطوا على كل شيء، ولم يتركوا لنا غير المحارات الفارغة، فيما أراهن أن تظاهرات الزمن المقبل لن تطالب بأكثر من الحصول على قبرٍ في فلسطين، ليصبح الهتاف الجديد: "فلسطين من النهر إلى القبر".
التظاهرات نفسها، وسلالة الناشطين، لم تتغير، بل كل ما تغير فلسطين ذاتها، التي لم تعد تُنظم التظاهرات لتحريرها، بل لإسقاط اتفاقياتٍ جزئيةٍ مع محتليها، لا تقدّم ولا تؤخر، ما دام القبول بالمحتل أصبح أمرًا واقعًا، ومعترفًا به، على الأقل من الأنظمة العربية، وتجار السلام الذين كانوا قبل ذلك تجار الحرب أنفسهم.
مطلوب، إذن، من المعارض العربي أن يقلص شعاراته، على مدار اليوم، ليُرضي أنظمته، فيما تمطّ الأنظمة شعاراتها، لتبتلع المعارضات كلها، وتتفرد بقراراتها و"أحلامها" التي لم تعد تتسع لها منظومة القمع العاشرة بعد الألف.
مطلوبٌ، أيضاً، أن تتقلص فلسطين في أعين الشعوب العربية، إلى أقل من "ميدالية" مفاتيح سيارة حتى، لأن هناك من الأنظمة العربية من يطارد حامل هذه الميدالية بذرائع شتى.
ربما كان قدَرًا جغرافيًّا أن تبدأ فلسطين نهرًا وتنتهي بحرًا، على اعتبار أن الحلم يبدأ صغيرًا وينتهي كبيرًا. لكن، في الحلم العربيّ، تحديدًا، ينعكس المحتوى الذي يبدأ كبيرًا وينتهي صغيرًا، ففلسطين بدأت بحرًا وانتهت نهرًا، بل ربما أقل من مجرى مائي هزيل، بعد أن استولت إسرائيل على معظم مياه النهر.
ويحضرني، في هذا المقام، بطل غسان كنفاني، ذلك الفلسطينيّ المرهق الذي سافر إلى الكويت، بحثًا عن "الثروة"، وكان في ذهنه أنه ما أن يطأ أرض المطار، حتى تنهال عليه أمطار الذهب والفضة، لكن بعد سلسلة خيبات وأبواب مغلقة في وجهه، كان على استعدادٍ لأن يعمل بوابًا، في سبيل البقاء على قيد الحياة، لا أكثر. وفي النهاية، لم يفلح بإيجاد أي عمل، ليضطر بعدها إلى مغادرة الكويت. وفي الطريق إلى المطار، استوقفه مشهد بائعي المحارات المغلقة على الشاطئ، فالتمعت عيناه، وتوهج الحلم في قلبه، ثانيةً، وهرع إلى أحدهم، فاشترى منه كمية المحار كلها التي كان يعرضها البائع أمامه، وطلب منه أن يفتحها بسكّينه، واحدة تلو الأخرى.
ومع كل محارةٍ يفتحها البائع، كان صاحبنا يتوهج ثم ينطفئ، حين يجدها فارغةً من حبة اللؤلؤ التي كان يبحث عن التماعتها، إلى أن وصلت السكين إلى المحارة الأخيرة، فسقط صاحبنا ميتًا قبل أن يفتحها البائع.. هكذا يتقلص الحلم من ثروةٍ إلى محارة، وقد ترك غسان كنفاني النهاية مفتوحةً، لأن القصد لم يكن اللؤلؤة المفقودة، بل الحلم الذي مات في قلب صاحبه.
على هذا الغرار، تقلصت فلسطين، في أعيننا، وفي هتافات المتظاهرين، بعد أن بدأت بشعار: من النهر إلى البحر"، ثم "من النهر إلى الخط الأخضر"، ثم إلى "غزة أولًا"، وربما "أخيرًأ"، وها هي تصل الآن إلى: "فلسطين من النهر إلى الغاز"، وفي جميع تلك الشعارات، يتضاءل الأمل، وصولاً إلى رهانٍ خاسر على محارةٍ مغلقةٍ خير لنا أن نسقط ميتين، قبل أن نفتحها.
أما خاطفو الحلم فما أكثرهم، خصوصًا ممن قبلوا على أنفسهم أن يجعلوا من فلسطين مقاطعاتٍ معزولة، وأصبحت المدن الفلسطينية "مستوطنات" للفلسطينيين، وسط جغرافيا يهودية، تحاصرهم من كل الجهات، فيما ينحصر نشاط زعمائهم في قمع التظاهرات المطلبية والسياسية على حد سواء، وتقديم التعازي الحارّة بمن ينفق من أسيادهم في تل أبيب.
كانت المسافة بين النهر والبحر شعارنا، فاكتشفنا، بعد طول خديعةٍ، أنها لم تكن غير شعار المحتل نفسه، بمساندة "محتلين" آخرين من بني جلدتنا الذين سطوا على كل شيء، ولم يتركوا لنا غير المحارات الفارغة، فيما أراهن أن تظاهرات الزمن المقبل لن تطالب بأكثر من الحصول على قبرٍ في فلسطين، ليصبح الهتاف الجديد: "فلسطين من النهر إلى القبر".