28 يناير 2024
ثلاث خيبات بتذكرة واحدة
لا أتحدث عن الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا، ولا عن (السلطان) الذي أطاح خصومه، بل ما يعنيني هنا أمر آخر، يتصل بذكرى بعيدة تخصني وحدي.
قبل عقود، كانت أفلام بروس لي حلاً سحرياً لنا، نحن مراهقي السبعينيات، للتعويض عن شعورنا بنقص قوانا الجسدية، أو إثر أيّ هزيمةٍ نُمنى بها في عراكٍ فاشلٍ مع شبان يفوقوننا حجماً وعضلات، إذ كان يكفي أن نحضر فيلماً لبطل (الكونغ فو) إياه، لنخرج من دار السينما الرطبة، بشعور هرقل، وبإحساس زائف بالقدرة على هزيمة حشدٍ كامل من مفتولي العضلات.
أما عند الهزائم العاطفية، فلم يكن أمامنا ملجأ غير مشاهدة أفلام محمود ياسين ونجلاء فتحي، لنستعيد حبيباتنا بشخصية نجلاء فتحي نفسها، ونخرج من الفيلم كأننا لم نُهزم قط.
على الغرار نفسه، استعدنا فلسطين في أحد الأفلام الحربية، بمقاتل واحد هو (رامبو)، وهزمنا الاستعمار مع فيلم (غاندي)، وطلقنا الفقر نهائياً وتحولنا إلى أثرياء مع الفيلم الهندي (من أجل أبنائي).
شهدت دور السينما تلك أعظم طموحاتنا، نحن "الأبطال" الذين قتلنا الأسود بشدّ فكّيها على اتساعهما، كما فعل طرزان، وحرقنا قلوب نسوةٍ كثيرات، بفضل صداقتنا الوطيدة مع (كازانوفا)، وأطحنا خصومنا في مبارزات مسدسات (الكاوبوي)، من دون أن يفارق السيجار الكوبي شفاهنا.
وفي جميع الحالات، كنا نجد معادلنا الموضوعي الذي ينتشلنا من قيعان خيباتنا، فنخرج من دار السينما، بكامل اتّزاننا النفسي والجسدي والعاطفي، بحثاً عن خيبةٍ جديدة، بل كان في وسع من يعانون من جملة خيبات أن يتخفّفوا منها كلها، في يوم واحد، لأن دار السينما تلك كانت تتيح لنا، كذلك، فرصة مشاهدة ثلاثة أو أربعة أفلام بتذكرة واحدة، ومنها، بالطبع، الأفلام الحمراء التي كانت ملاذ المحرومين جنسياً، ليخرج الواحد منهم بإحساس من "فتح الأندلس"، نفسها.
حتى الآن، لم أستحضر سيرة (السلطان)، وما يهمني أننا، بعد أن كبرنا على دار السينما تلك، وصدمنا بواقع الزيف السينمائي الذي كنا نحياه، وتبخّر حبيباتنا من على أرض الشاشات والواقع، معاً، ورحيل فلسطين التي استعادتها مخيلاتنا فقط، رحنا نفتّش عن أفلامٍ أكثر واقعية، تتجسّد هذه المرة، بأبطال نشترك نحن في صناعتهم، لنحمّلهم كل هزائمنا وخيباتنا التي لم نستطع تحقيقها بمجموعنا كله، ونعهد إليهم بأحلامنا في استعادة كراماتنا الممرّغة بأوحال النكبات والنكسات، لنتحلل من هذا العبء الذي نرزح تحت وطأته، فاخترعنا جمال عبد الناصر، في حقبة المد القومي. وحين فشل ومات كمداً، أحسسنا بيتمٍ حقيقي، بفقدان من اعتبرناه "أب" العرب كلهم، ولم نلبث أن اخترعنا صدام حسين بطلاً قادراً على إعادة التوازن القومي لنا، لكن صدمتنا به كانت أشدّ فداحةً، لأننا لم نتحلّل بتاتا من عقدة "الآباء"، فندرك أن طريق الخلاص لا يكون بغير أفراد العائلة أولاً، الذين يصنعون قراراتهم بأيديهم، ويوجهون الأب إلى تنفيذها، لا أن يسلموا زمامهم إليه وحده، ويتركوا له أن يقود المركب منفرداً، ويتولى عنهم حتى التفكير وتحديد مصائرهم.
وبعد أن استيأسنا من آبائنا كلهم، خصوصاً، عقب فشل ثورات الربيع العربي، رحنا نقلّب أوراق التاريخ، بحثاً عن أبٍ من خارج الأسرة هذه المرة، فاتجهنا إلى "سلطانٍ" نستعيد فيه ذكرى إمبراطوريات غابرة، ونستعيد معه كرامة أيتامٍ ما زالوا يقفون بعيداً عن موائد لئام العصر، وحمّلنا "البطل" الجديد ثلاث خيباتٍ بتذكرةٍ واحدة: تحقيق حريتنا واستعادة فلسطين، وإنجاز وحدة لم يكن آباؤنا الحقيقيون جادّين أبداً في استعادتها.
وجلسنا نتابع فيلم (السلطان)، وبطولاته، حتى باغتنا مشهدٌ لم يكن في الحسبان قبل أيام، فانتصبنا كلنا في قاعة السينما محبوسي الأنفاس، مرتجفي الشفاه، حتى عادت الأمور إلى نصابها، واستعاد السلطان توازنه، وقضى على خصومه، فزفرنا هواء الارتياح من أطراف أقدامنا، وعدنا نتابع الفيلم بتلذّذ، مع إحساسٍ عميق بالتوازن الذاتي، وبأننا سنخرج من قاعة السينما إلى وطن إسلامي موحّد، وبيقين من يتجّه إلى قدسٍ محرّرة، وحريات مصونة.
أيضاً، لغاية الآن، لم أتحدث عما حدث في تركيا، بل عن ثلاث خيباتٍ بتذكرة واحدة.
قبل عقود، كانت أفلام بروس لي حلاً سحرياً لنا، نحن مراهقي السبعينيات، للتعويض عن شعورنا بنقص قوانا الجسدية، أو إثر أيّ هزيمةٍ نُمنى بها في عراكٍ فاشلٍ مع شبان يفوقوننا حجماً وعضلات، إذ كان يكفي أن نحضر فيلماً لبطل (الكونغ فو) إياه، لنخرج من دار السينما الرطبة، بشعور هرقل، وبإحساس زائف بالقدرة على هزيمة حشدٍ كامل من مفتولي العضلات.
أما عند الهزائم العاطفية، فلم يكن أمامنا ملجأ غير مشاهدة أفلام محمود ياسين ونجلاء فتحي، لنستعيد حبيباتنا بشخصية نجلاء فتحي نفسها، ونخرج من الفيلم كأننا لم نُهزم قط.
على الغرار نفسه، استعدنا فلسطين في أحد الأفلام الحربية، بمقاتل واحد هو (رامبو)، وهزمنا الاستعمار مع فيلم (غاندي)، وطلقنا الفقر نهائياً وتحولنا إلى أثرياء مع الفيلم الهندي (من أجل أبنائي).
شهدت دور السينما تلك أعظم طموحاتنا، نحن "الأبطال" الذين قتلنا الأسود بشدّ فكّيها على اتساعهما، كما فعل طرزان، وحرقنا قلوب نسوةٍ كثيرات، بفضل صداقتنا الوطيدة مع (كازانوفا)، وأطحنا خصومنا في مبارزات مسدسات (الكاوبوي)، من دون أن يفارق السيجار الكوبي شفاهنا.
وفي جميع الحالات، كنا نجد معادلنا الموضوعي الذي ينتشلنا من قيعان خيباتنا، فنخرج من دار السينما، بكامل اتّزاننا النفسي والجسدي والعاطفي، بحثاً عن خيبةٍ جديدة، بل كان في وسع من يعانون من جملة خيبات أن يتخفّفوا منها كلها، في يوم واحد، لأن دار السينما تلك كانت تتيح لنا، كذلك، فرصة مشاهدة ثلاثة أو أربعة أفلام بتذكرة واحدة، ومنها، بالطبع، الأفلام الحمراء التي كانت ملاذ المحرومين جنسياً، ليخرج الواحد منهم بإحساس من "فتح الأندلس"، نفسها.
حتى الآن، لم أستحضر سيرة (السلطان)، وما يهمني أننا، بعد أن كبرنا على دار السينما تلك، وصدمنا بواقع الزيف السينمائي الذي كنا نحياه، وتبخّر حبيباتنا من على أرض الشاشات والواقع، معاً، ورحيل فلسطين التي استعادتها مخيلاتنا فقط، رحنا نفتّش عن أفلامٍ أكثر واقعية، تتجسّد هذه المرة، بأبطال نشترك نحن في صناعتهم، لنحمّلهم كل هزائمنا وخيباتنا التي لم نستطع تحقيقها بمجموعنا كله، ونعهد إليهم بأحلامنا في استعادة كراماتنا الممرّغة بأوحال النكبات والنكسات، لنتحلل من هذا العبء الذي نرزح تحت وطأته، فاخترعنا جمال عبد الناصر، في حقبة المد القومي. وحين فشل ومات كمداً، أحسسنا بيتمٍ حقيقي، بفقدان من اعتبرناه "أب" العرب كلهم، ولم نلبث أن اخترعنا صدام حسين بطلاً قادراً على إعادة التوازن القومي لنا، لكن صدمتنا به كانت أشدّ فداحةً، لأننا لم نتحلّل بتاتا من عقدة "الآباء"، فندرك أن طريق الخلاص لا يكون بغير أفراد العائلة أولاً، الذين يصنعون قراراتهم بأيديهم، ويوجهون الأب إلى تنفيذها، لا أن يسلموا زمامهم إليه وحده، ويتركوا له أن يقود المركب منفرداً، ويتولى عنهم حتى التفكير وتحديد مصائرهم.
وبعد أن استيأسنا من آبائنا كلهم، خصوصاً، عقب فشل ثورات الربيع العربي، رحنا نقلّب أوراق التاريخ، بحثاً عن أبٍ من خارج الأسرة هذه المرة، فاتجهنا إلى "سلطانٍ" نستعيد فيه ذكرى إمبراطوريات غابرة، ونستعيد معه كرامة أيتامٍ ما زالوا يقفون بعيداً عن موائد لئام العصر، وحمّلنا "البطل" الجديد ثلاث خيباتٍ بتذكرةٍ واحدة: تحقيق حريتنا واستعادة فلسطين، وإنجاز وحدة لم يكن آباؤنا الحقيقيون جادّين أبداً في استعادتها.
وجلسنا نتابع فيلم (السلطان)، وبطولاته، حتى باغتنا مشهدٌ لم يكن في الحسبان قبل أيام، فانتصبنا كلنا في قاعة السينما محبوسي الأنفاس، مرتجفي الشفاه، حتى عادت الأمور إلى نصابها، واستعاد السلطان توازنه، وقضى على خصومه، فزفرنا هواء الارتياح من أطراف أقدامنا، وعدنا نتابع الفيلم بتلذّذ، مع إحساسٍ عميق بالتوازن الذاتي، وبأننا سنخرج من قاعة السينما إلى وطن إسلامي موحّد، وبيقين من يتجّه إلى قدسٍ محرّرة، وحريات مصونة.
أيضاً، لغاية الآن، لم أتحدث عما حدث في تركيا، بل عن ثلاث خيباتٍ بتذكرة واحدة.