08 مارس 2017
في الترابط بين ظواهر التاريخ وأعماقه
لم يعد التاريخ الحدثي القصير الأمد، وأسميه مجازاً السريع، مرجعيةً لفهم تطور المجتمعات والأمم، التاريخ الحدثي هو ما تعلمناه صغاراً في المدارس، حول الأحداث، كبيرها أو صغيرها، التي حدثت هنا أو هناك، وكأنها أسّست لما بعدها، أو أنهت ما قبلها.
التاريخ الطويل الأمد، أو ما أسميه مجازاً البطيء، هو الآن، ومنذ وصفه، منتصف القرن الماضي، وسيلة المؤرخين، لفهم تطور المجتمعات، ومحاولة للتنبؤ بمستقبلها، هو التاريخ اليومي، المستمر بين الأحداث.
لتقريب الصورة، نقول إن المجتمع يتطور ويتغيّر مثل مجرى نهرٍ عميق، تموجات السطح، هو التاريخ السريع الحدثي المرئي، لكنه في الحقيقة يعكس التغيرات الجارية باستمرار، وغير الملحوظة في أعماق النهر. لذلك، يدرس المؤرخون هذا التاريخ المستمر، في حين تقلص الاعتماد على التاريخ الحدثي بشكل كبير.
ذكر الفرنسي فرنان بروديل (1902-1985)، مؤسس هذا التصور الجامع للتاريخ، إن أصعب شيء عليه، حين وضع هذه النظرية الجديدة، في الأربعينيات، وكان حينها سجيناً خمس سنوات في ألمانيا النازية، هو كيفية التركيز على هذا التاريخ البطيء وعدم الغرق في التاريخ السريع، بينما كان هو نفسه، يعيش قمة هذا التاريخ الأخير، أي الحرب العالمية الثانية، ومآسيها وكوارثها، والذي كان كسجين أحد ضحاياها.
هذا ما نواجهه حالياً، في عالمنا العربي، عندما نرى مجرى أحداث هذا التاريخ السريع الظاهري، والذي ببشاعته يُبعد عنا فهم التاريخ الحقيقي للأمة، وهو تطوّرها الاجتماعي البطيء، منذ عشرات السنين، والذي تُرجم فقط في موجات الربيع العربي، وردود فعل الأنظمة وداعميها وعنفهم اللامحدود. من الصعب أن نفهم أحداث سورية أو اليمن ومصر وليبيا وتونس، إن تقوقعنا في إطار الأحداث الدامية الجارية وغارات طائرات أنظمة البراميل المتفجرة، على الرغم من فظاعتها.
تمركز تاريخنا البطيء هذا، بشكل أساسي، عند القرن الأخير، على فشل الدولة الوطنية لتحقيق أي شيء يُذكر. منها: فشل الدولة الوطنية في تحقيق رفاهية المواطن وحريته، بغض النظر عن السلطة، أو الانتقال إلى الدولة المدنية الديمقراطية، ووضع أسس الحكم الرشيد. فشل الأنظمة العربية بكل أشكالها، الغنية بالبترول أو الفقيرة، ببناء اقتصاد إنتاجي، يهدف إلى إيجاد فرص عمل للمواطن وتفشي البطالة. الفساد المُستشري في المجال الاقتصادي ونهب ثروات الأوطان، لصالح أقلية حاكمة. استمرارية الأنظمة بالتضييق على حرية الحركة للناس، داخل إطار الدول العربية بادّعاء الأسباب الأمنية، ما يحدّ من أفق المواطن بوجود ظروف أفضل لحياته، على امتداد الساحة العربية. عدم توفر أي متنفس ديمقراطي، للتعبير عن الظلم الواقع، والاستمرار بتمجيد الفكر الديني أو القومي، وسيلةً لكبح أي معارضة. رهن مستقبل البلاد والعباد لمصلحة الأنظمة الفئوية الضيقة. تدمير البنية التحتية التقليدية، عن طريق استخدام سياسات إعمارية وزراعية فوضوية، بناء على المحسوبيات والمصالح. بناء سياسات خارجية وتحالفات، مبنية على مبدأ مصلحة الأنظمة، وليس بناءً على مصلحة الشعوب (استثمارات مالية أو تنازلات عن السيادة أحياناً، والتطبيع مع إسرائيل والفشل في مواجهتها). عدم التمكّن من إقامة أي تجمع جهوي فعال لمصلحة المواطن العربي، كاتحاد المغرب العربي (1989)، والذي لم يتمكّن حتى من فتح الحدود بين الدول الخمس الأعضاء، أو مجلس التعاون الخليجي (1981) والذي لم تترجم أفعاله إلا في النواحي الأمنية تقريباً. والفشل الذريع لجامعة الدول العربية (1945) لتحقيق أهدافها المعلنة عند تأسيسها. الاستمرار بالتنابذ والتباعد وتكريس التجزئة (انفصال جنوب السودان).
في الوقت نفسه، تطور المجتمع خلال الأربعين سنة الأخيرة، نحو انتشار كبير للتعليم، وإيجاد
طبقة وسطى واسعة، غير قادرة على الحصول على وظائف أو فرص عمل، وذلك نتيجة ما تم ذكره سابقاً، وتطور المجتمع المدني ومطالبه. من ناحية أخرى، التغيير في دور المرأة والعائلة، وظهور مفهوم المساواة بين الرجل والمرأة في الدراسة والعمل. وتراجع التطور الديمغرافي بشكل كبير، حيث الانخفاض المستمر بالمعدل العام للإنجاب في الدول العربية. وقد توازى ذلك كله مع موجة تحرّر عالمية واسعة، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وحصول الدول الأوروبية الشرقية الشيوعية السابقة على حريتها، وكذلك التطور الديمقراطي الواضح الواسع في أميركا اللاتينية وإفريقيا ودول في جنوب شرق آسيا. لم تبق منطقة في العالم، كما الحال في بلادنا العربية، ترتع بهذا المستوى من التخلف ومنع الحريات.
من ناحية أخرى، تطور نظام التواصل العالمي، والذي فتح العالم أمام الشباب العربي الذي لم يعد يقبل أن يستمر في قبول دور المواطن الرعية، المطلوب منه السمع والطاعة للسلطان، كما فعل الآباء من قبل، وهو التوّاق للحصول على حريته، مثل الآخرين.
ليس هذا توصيفاً حصرياً، وإنما نقاط على مؤرخينا ودارسي المجتمعات العربية البحث فيها وتحليلها، لأن الأمة، مع انطلاقة الربيع العربي بتاريخه السريع الذي توّج كل هذه المتغيرات بتاريخها البطيء، بدأت على الرغم من كل ما نرى؛ تحاول جاهدةً الدخول في عالم الحداثة التي ابتعدت عنه منذ حوالي عشرة قرون، عندما غيّب العقل ودخلت الأمة العربية والإسلامية عالم الجهل والتقوقع، وآخر العقلانيين كان ابن رشد.
للأسف، لا نكاد نجد في ما ينشر حالياً شيئاً يُذكر في دراسة التاريخ طويل الأمد البطيء للأمة، والذي هو التاريخ الحقيقي الفعال. هذه الدراسات النقدية التي يجب أن تركّز على تاريخ الأزمات والترهل المستمر وأسبابه وحلوله، خصوصاً تلك التناقضات الداخلية المرتبطة بتركيبتنا وبتاريخنا، وليس فقط العوامل الخارجية والاستعمار، والذي نعلق عليها دائماً مآسينا. يعتبر التاريخ طويل الأمد، كما يقول بروديل، أم العلوم، فهو يحتاج من أجل فهمه معرفة كل نواحي الحياة من العلوم والجغرافيا إلى علم الاجتماع والاقتصاد، وليس فقط الأحداث.
يجب أن يدرس هذا التاريخ على الأقل، منذ نشأة الدولة الوطنية العربية، بعد إنهاء الخلافة العثمانية (1918). لم تعد نجاحاتها الوهمية بالتحرّر الوطني من الاستعمار خلال الأربعينات والخمسينات كافيةً لتبرير استمرارها، أو التغطية على فشلها الذريع في كل النواحي. وعنفها المفرط الممارس حالياً بتاريخنا السريع هو دليل هذا الفشل، واقتراب النهاية المنتظرة، والتي لا مفرّ منها، حسب رؤية التاريخ البطيء وحتميته. وهذا ما حدث ويحدث مع كل الأنظمة والدول الفاشلة عبر العالم، منذ مئات السنين، مهما كانت قويةً وجبارة، وكان ابن خلدون أول من استنتج ذلك في دراسته تاريخ الأمم.
عدم فهم الترابط العضوي بين التاريخين، البطيء والسريع، واختصار الربيع العربي بظواهره، وخصوصاً العنيفة المرتبطة برد الأنظمة، هو كمن يريد أن يدرس البحر فقط من خلال أمواجه المرئية على الشواطئ، من دون الالتفات إلى التيارات العميقة الجبارة داخله، ما يؤدي إلى انتشار نظرية المؤامرة الغربية بانفجار هذا الربيع، في محاولةٍ لفهم ما يحدث، عندما لا نستطيع أن نرى التطور البطيء للتاريخ الحقيقي، والذي، لشدّة بطئه وتطوره عشرات السنين، لا يمكن ملاحظته. لذلك، على المؤرخين والأكاديميين، البدء بالتنقيب عن هذا التاريخ، وعدم الوقوف عند التاريخ الحدثي السريع.
انتهاء البحوث العلمية عن الشرق في الجامعات الغربية، والتي كانت ساحة تفاعل مع المفكرين المسلمين، في القرن التاسع عشر، كما حدث بين جمال الدين الأفغاني (1838-1897) والمفكر الفرنسي إيرنست رينان، حول مفهوم الحضارة الإسلامية، أو عن العلمانية مع الشيخ محمد عبده (1849-1905). تم هذا التوقف بسبب الخلط عند العرب في مرحلة لاحقة بين الاستشراق والاستعمار.
كان منتظراً أن يُتيح توقف الدراسات الشرقية في الغرب إلى تطور هذا العلم في بلاد المصدر، أي الأقطار العربية، لكن ذلك لم يحدث، واستُبدل بالبحوث الدينية، أو ذات الطابع الغيبي التي لا تستعمل وسائل البحث العلمي الحديث، إلا ما ندر.
الدراسات الشرقية حالياً في جامعة السوربون في باريس مكون بسيط وثانوي، من دراسة تاريخ الشرق ولغاته، ولم تعد مكوناً أساسياً، وليس لها أي بُعد استكشافي، أو تفاعلي كما كان سابقاً، على الرغم من محاولات إصلاحيين مسلمين، مقيمين في أوروبا تغيير ذلك، مثل الأستاذ الجامعي في "السوربون" هشام جعيط، والمفكر محمد أركون، وعياض بن عاشور.
من هنا، تشكل ضرورة البحث العلمي في معطيات تاريخ الأمة طويل الأمد أبرز المهام الراهنة، ومن دونه لن يكون ممكناً فهم الحاضر، أو إيجاد التصورات الواقعية للمستقبل، وذلك ما قد يعيد الحلقة المفقودة بين الزحف العارم للجماهير نحو حياة جديدة حرة وكريمة والفكر الضروري لقيادة هذا الحراك والدفع إلى إنجاحه بأقل الخسائر الممكنة.
لتقريب الصورة، نقول إن المجتمع يتطور ويتغيّر مثل مجرى نهرٍ عميق، تموجات السطح، هو التاريخ السريع الحدثي المرئي، لكنه في الحقيقة يعكس التغيرات الجارية باستمرار، وغير الملحوظة في أعماق النهر. لذلك، يدرس المؤرخون هذا التاريخ المستمر، في حين تقلص الاعتماد على التاريخ الحدثي بشكل كبير.
ذكر الفرنسي فرنان بروديل (1902-1985)، مؤسس هذا التصور الجامع للتاريخ، إن أصعب شيء عليه، حين وضع هذه النظرية الجديدة، في الأربعينيات، وكان حينها سجيناً خمس سنوات في ألمانيا النازية، هو كيفية التركيز على هذا التاريخ البطيء وعدم الغرق في التاريخ السريع، بينما كان هو نفسه، يعيش قمة هذا التاريخ الأخير، أي الحرب العالمية الثانية، ومآسيها وكوارثها، والذي كان كسجين أحد ضحاياها.
هذا ما نواجهه حالياً، في عالمنا العربي، عندما نرى مجرى أحداث هذا التاريخ السريع الظاهري، والذي ببشاعته يُبعد عنا فهم التاريخ الحقيقي للأمة، وهو تطوّرها الاجتماعي البطيء، منذ عشرات السنين، والذي تُرجم فقط في موجات الربيع العربي، وردود فعل الأنظمة وداعميها وعنفهم اللامحدود. من الصعب أن نفهم أحداث سورية أو اليمن ومصر وليبيا وتونس، إن تقوقعنا في إطار الأحداث الدامية الجارية وغارات طائرات أنظمة البراميل المتفجرة، على الرغم من فظاعتها.
تمركز تاريخنا البطيء هذا، بشكل أساسي، عند القرن الأخير، على فشل الدولة الوطنية لتحقيق أي شيء يُذكر. منها: فشل الدولة الوطنية في تحقيق رفاهية المواطن وحريته، بغض النظر عن السلطة، أو الانتقال إلى الدولة المدنية الديمقراطية، ووضع أسس الحكم الرشيد. فشل الأنظمة العربية بكل أشكالها، الغنية بالبترول أو الفقيرة، ببناء اقتصاد إنتاجي، يهدف إلى إيجاد فرص عمل للمواطن وتفشي البطالة. الفساد المُستشري في المجال الاقتصادي ونهب ثروات الأوطان، لصالح أقلية حاكمة. استمرارية الأنظمة بالتضييق على حرية الحركة للناس، داخل إطار الدول العربية بادّعاء الأسباب الأمنية، ما يحدّ من أفق المواطن بوجود ظروف أفضل لحياته، على امتداد الساحة العربية. عدم توفر أي متنفس ديمقراطي، للتعبير عن الظلم الواقع، والاستمرار بتمجيد الفكر الديني أو القومي، وسيلةً لكبح أي معارضة. رهن مستقبل البلاد والعباد لمصلحة الأنظمة الفئوية الضيقة. تدمير البنية التحتية التقليدية، عن طريق استخدام سياسات إعمارية وزراعية فوضوية، بناء على المحسوبيات والمصالح. بناء سياسات خارجية وتحالفات، مبنية على مبدأ مصلحة الأنظمة، وليس بناءً على مصلحة الشعوب (استثمارات مالية أو تنازلات عن السيادة أحياناً، والتطبيع مع إسرائيل والفشل في مواجهتها). عدم التمكّن من إقامة أي تجمع جهوي فعال لمصلحة المواطن العربي، كاتحاد المغرب العربي (1989)، والذي لم يتمكّن حتى من فتح الحدود بين الدول الخمس الأعضاء، أو مجلس التعاون الخليجي (1981) والذي لم تترجم أفعاله إلا في النواحي الأمنية تقريباً. والفشل الذريع لجامعة الدول العربية (1945) لتحقيق أهدافها المعلنة عند تأسيسها. الاستمرار بالتنابذ والتباعد وتكريس التجزئة (انفصال جنوب السودان).
في الوقت نفسه، تطور المجتمع خلال الأربعين سنة الأخيرة، نحو انتشار كبير للتعليم، وإيجاد
من ناحية أخرى، تطور نظام التواصل العالمي، والذي فتح العالم أمام الشباب العربي الذي لم يعد يقبل أن يستمر في قبول دور المواطن الرعية، المطلوب منه السمع والطاعة للسلطان، كما فعل الآباء من قبل، وهو التوّاق للحصول على حريته، مثل الآخرين.
ليس هذا توصيفاً حصرياً، وإنما نقاط على مؤرخينا ودارسي المجتمعات العربية البحث فيها وتحليلها، لأن الأمة، مع انطلاقة الربيع العربي بتاريخه السريع الذي توّج كل هذه المتغيرات بتاريخها البطيء، بدأت على الرغم من كل ما نرى؛ تحاول جاهدةً الدخول في عالم الحداثة التي ابتعدت عنه منذ حوالي عشرة قرون، عندما غيّب العقل ودخلت الأمة العربية والإسلامية عالم الجهل والتقوقع، وآخر العقلانيين كان ابن رشد.
للأسف، لا نكاد نجد في ما ينشر حالياً شيئاً يُذكر في دراسة التاريخ طويل الأمد البطيء للأمة، والذي هو التاريخ الحقيقي الفعال. هذه الدراسات النقدية التي يجب أن تركّز على تاريخ الأزمات والترهل المستمر وأسبابه وحلوله، خصوصاً تلك التناقضات الداخلية المرتبطة بتركيبتنا وبتاريخنا، وليس فقط العوامل الخارجية والاستعمار، والذي نعلق عليها دائماً مآسينا. يعتبر التاريخ طويل الأمد، كما يقول بروديل، أم العلوم، فهو يحتاج من أجل فهمه معرفة كل نواحي الحياة من العلوم والجغرافيا إلى علم الاجتماع والاقتصاد، وليس فقط الأحداث.
يجب أن يدرس هذا التاريخ على الأقل، منذ نشأة الدولة الوطنية العربية، بعد إنهاء الخلافة العثمانية (1918). لم تعد نجاحاتها الوهمية بالتحرّر الوطني من الاستعمار خلال الأربعينات والخمسينات كافيةً لتبرير استمرارها، أو التغطية على فشلها الذريع في كل النواحي. وعنفها المفرط الممارس حالياً بتاريخنا السريع هو دليل هذا الفشل، واقتراب النهاية المنتظرة، والتي لا مفرّ منها، حسب رؤية التاريخ البطيء وحتميته. وهذا ما حدث ويحدث مع كل الأنظمة والدول الفاشلة عبر العالم، منذ مئات السنين، مهما كانت قويةً وجبارة، وكان ابن خلدون أول من استنتج ذلك في دراسته تاريخ الأمم.
عدم فهم الترابط العضوي بين التاريخين، البطيء والسريع، واختصار الربيع العربي بظواهره، وخصوصاً العنيفة المرتبطة برد الأنظمة، هو كمن يريد أن يدرس البحر فقط من خلال أمواجه المرئية على الشواطئ، من دون الالتفات إلى التيارات العميقة الجبارة داخله، ما يؤدي إلى انتشار نظرية المؤامرة الغربية بانفجار هذا الربيع، في محاولةٍ لفهم ما يحدث، عندما لا نستطيع أن نرى التطور البطيء للتاريخ الحقيقي، والذي، لشدّة بطئه وتطوره عشرات السنين، لا يمكن ملاحظته. لذلك، على المؤرخين والأكاديميين، البدء بالتنقيب عن هذا التاريخ، وعدم الوقوف عند التاريخ الحدثي السريع.
انتهاء البحوث العلمية عن الشرق في الجامعات الغربية، والتي كانت ساحة تفاعل مع المفكرين المسلمين، في القرن التاسع عشر، كما حدث بين جمال الدين الأفغاني (1838-1897) والمفكر الفرنسي إيرنست رينان، حول مفهوم الحضارة الإسلامية، أو عن العلمانية مع الشيخ محمد عبده (1849-1905). تم هذا التوقف بسبب الخلط عند العرب في مرحلة لاحقة بين الاستشراق والاستعمار.
كان منتظراً أن يُتيح توقف الدراسات الشرقية في الغرب إلى تطور هذا العلم في بلاد المصدر، أي الأقطار العربية، لكن ذلك لم يحدث، واستُبدل بالبحوث الدينية، أو ذات الطابع الغيبي التي لا تستعمل وسائل البحث العلمي الحديث، إلا ما ندر.
الدراسات الشرقية حالياً في جامعة السوربون في باريس مكون بسيط وثانوي، من دراسة تاريخ الشرق ولغاته، ولم تعد مكوناً أساسياً، وليس لها أي بُعد استكشافي، أو تفاعلي كما كان سابقاً، على الرغم من محاولات إصلاحيين مسلمين، مقيمين في أوروبا تغيير ذلك، مثل الأستاذ الجامعي في "السوربون" هشام جعيط، والمفكر محمد أركون، وعياض بن عاشور.
من هنا، تشكل ضرورة البحث العلمي في معطيات تاريخ الأمة طويل الأمد أبرز المهام الراهنة، ومن دونه لن يكون ممكناً فهم الحاضر، أو إيجاد التصورات الواقعية للمستقبل، وذلك ما قد يعيد الحلقة المفقودة بين الزحف العارم للجماهير نحو حياة جديدة حرة وكريمة والفكر الضروري لقيادة هذا الحراك والدفع إلى إنجاحه بأقل الخسائر الممكنة.