الطبيب خالد أبو سمرة... مناوبتي التي لم تنته (2)

19 سبتمبر 2024
جثامين شهداء في ساحة مستشفى الشفاء المدمر- 16 أبريل 2024 (حمزة قريقع/الأناضول)
+ الخط -

هَذِه شهادَاتٌ لِناجِين وناجياتٍ من الحرْب فِي قِطَاع غَزَّة اِلتقيْتهم فِي البرْزخ. حِكايَاتٌ مَسمُولةٌ بِالْأشْواك تُحَاوِل التَّحْديق فِي الفاجعة، سِلْسلة قِصص توْثيقيَّةٍ تَبحَث فِي ثِيمة النُّقْصان. هُنَا بشر فَقدُوا كُلّ شَيْء: عائلاتهم، بُيوتهم، أطْرافهم، أحْشاءهم، قطعا مِن اللَّحْم اِعْتادتْ أن تَكسُو عِظامَهم، حَوَاسّ زوَّدتْهم بِهَا البيولوجْيَا لِالْتقاط معْلوماتٍ عن العالم الخارجيِّ، وَرقَة تِينٍ توارِي سَوأَة خَطِيئَة لَم يقْترفوهَا، وَلغَة مُتماسكة لَم يُصبْهَا مَا أَصَاب أصْحابهَا مِن تشظٍّ وَشَتاتٍ واسْتحالةٍ إِلى أَشلَاء مُتناثرة. قِصص النُّقْصان هَذِه؛ نُقْصان الأجْساد مِن أعْضائهَا، الخريطة مِن تضاريسهَا، التُّرْبة مِن بقْلهَا وقثَّائهَا وزيْتونهَا، البحْر مِن أسْماكه، القصائد مِن وزْنهَا وقافيتهَا، المنْظومة التَّعْليميَّة مِن أساتذتهَا وتلامذتهَا، المشافي مِن حَبَّة دَوَاء، قِصص تُحَاوِل الاكْتمال عَبْر روِي النُّقْصان، صَوْت اَلضحِية - اَلتِي لَم تَعُد تَملِك غَيْر ذاكرتهَا فِعْلاً لِلْمقاومة - لِجَعل اَللغَة البشريَّة الحسِّيَّة قَادِرة على تَجسِيد الألم أو النَّظر إِلَيه، إِنَّها مُحَاولَة لِرؤْية الإبادة مِن وُجهَة نظرٍ خَاصَّةٍ بِلحْظةٍ مُعَينَةٍ تَبحَث فِي مَا حدث لِفلسْطينيِّي غَزَّة بَعْد السَّابع مِن أُكتُوبَر.
 

كانتْ عيناهُ ترمشان كثيرًا بينما كان يتكلَّم، هضابٌ من الدَّمع تتماوجُ خلف أهدابهِ، أشعرُ وكأنَّها ستنطلقُ سيولاً في كلِّ مرَّةٍ ينطقُ فيها باسمِ مدينتهِ. ينطلقُ اسمُ غزَّة من فمهِ بطريقةٍ تقنعُ أنَّ صكوكَ ملكيَّة المكان موجودة بالأصلِ على شفاه أصحابها. ورغمَ سنواتِ شبابه الَّتي لمْ تتعدَّ الثَّلاثين، بدأَ شهادتهُ بصوتٍ رخيمٍ وكأنّ شيخًا عَبَرَ الألمُ عصورًا على جسدِه، هو الَّذي يتكلَّم: 
أنا خالد أبو سمرة، طبيب مقيم في مشفى الشِّفاء. 
هكذا بدأَ الكلامَ، حاولتُ ما استطعْتُ تجنُّب النَّظر في عينيه، بينما استمرَّت عيناهُ ترمشان، ترمشان كثيرًا بلا توقُّفٍ كما لو أنَّهُ لم يعدْ يرغبُ مواجهة الواقعِ بعينين مفتوحتين.
يوم السَّبت؛ السَّابع من أكتوبر، حين فُتحتْ أبوابُ الجحيم، كانَ من المفروضِ انتهاءُ مناوبتي اللَّيليَّة في المشفى السَّاعةَ السَّابعة فجرَ ذلك السَّبت الخريفيّ؛ - تحديدًا - قبلَ عشرينَ دقيقةٍ من ذلك، عند السَّاعة 6:40 تمامًا، عواءُ صواريخَ متوحِّشةٍ أخذَ يشاركُ أمواجَ البحر بتمزيق صمتِ غزَّةَ الصَّباحيِّ. وقفنا مذهولين ولم نعرفْ بدايةً مِنْ أينْ أتتْ هذه الأصوات، ولماذا! مَن الَّذي بدأ القصف! لمْ تطُلْ حيرتنا حتَّى اكتشفنا أنَّ الصَّواريخَ تُطلقُ من جهتنا، من الأرضِ الَّتي نقفُ فوقها، من قطاع غزَّةَ. اعتقدنا بدايةً باغتيالِ شخصيَّاتٍ قياديَّةٍ مثل صالح العاروري أو زياد نخالة وأنَّ هذه الصَّواريخ هي ردُّ الفعلِ الَّذي اعتادتهُ غزَّةَ في سنيّها الفائتة. فعّلنا آليَّةَ الطَّوارئِ في المشفى بأعصابٍ باردةٍ كما لو كنَّا نمارسُ عملًا اعتياديًّا تدرّبنا عليه لسنينَ طويلةٍ، الدُّكتور جمال الحرازين والدُّكتور معتز حرارة وأنا، كنَّا نعرفُ أنَّ الانتقامَ سيكون كبيرًا جدًّا، لكنَّ عقلنا كان عاجزًا أو لعلَّنا كنَّا نرفض تصوّرَ حجم الدَّمِ الَّذي سيسفكهُ الإسرائيليّون هذه المرّة. لم أغادرِ المشفى منذ ذلكَ الحين. 
بدأتِ الإصاباتُ تتوافدُ. السَّيَّارات؛ سواءً المخصَّصة للإسعافِ أم تلك الخاصَّة تأتي، تتركُ حمولتها البشريَّةَ ثمَّ تمضي لإنقاذِ المزيد. لحظاتُ التَّأخير تُحسبُ بالدَّمِ والشُّهداء، جرحى محمولون على الأكتاف يصلونَ أيضًا. يدركُ الأطبَّاءُ في غزَّة أنَّهم منذورون طوال حياتهم المهنيَّة لمواجهةٍ ملموسةٍ مع لحظةِ المجزرة، لكنَّ الإصاباتِ المميتةَ هذه المرَّة كانت تأتي من كلِّ أنحاءِ القطاع، كان هناك على ما يبدو مجازرَ في أكثر من مكان؛ الَّذين دخلوا إسرائيل، عادوا جميعًا شهداء. جرحى وشهداء في قصفٍ على سوقٍ شعبيّ شمالَ القطاع، جرحى وشهداء في قصفٍ على مدرسةٍ في وسط مدينة غزَّة، وما إن بلغنا عصر ذلك اليوم، حتَّى أصبحنا عاجزين عن إحصاءِ عددِ المجازر، أمَّا الشُّهداء، فكنَّا نُحصيهم بالعشرات، عشرة هنا، عشرون هناك، بضعٌ وعشرونَ بين هُنا وهُناك، لقد فُتحت على غزَّة أبوابَ الجحيم! ما رأيته يشبه أهوال يوم القيامة، لا لن أستطيعَ أنْ أصفَ لك الفظاعات، لا أحد بشريّ يستطيع!

كان قسم الطوارئ مليئًا بِالْأشْلاءِ البشريَّة والْجثث المتفحِّمة والْأهالي الَّذين يبْحثون عن أقاربِهم


بدأتْ أصواتُ القصفِ الإسرائيليِّ تغطِّي كاملَ مساحة قطاعِ غزَّة، هل قلت مساحةً؟! أرض غزَّة أقلّ منْ أنْ تُحصى كمساحة، أصغرُ من أنْ يُتركَ فيها حصانٌ ليركضَ بحرِّيَّتهِ. كنتُ في حيرةٍ من أمري؛ أهلي في تلِّ الزَّعتر في مخيَّم جباليا شمالاً، سمعتُ أنّ القصفَ حولهم غزيرٌ فحاولتُ الاطمئنان عليهم. خطيبتي نور أيضًا فكَّرت فيها. بقيت مشتَّتًا بينَ الجرحى والأشلاء الذينَ في يديّ وبينَ أهلي وخطيبتي، القصفُ يحملُ الموتَ في كلِّ مكان، الجحيمُ في كلِّ مكان.
كانوا يقصفون بلا توقّفٍ، أدركنا بوضوحٍ منذُ البدايةِ أنَّهم يريدون إبادةً كاملةً لسكَّان القطاع. أيُّ مخلوقٍ حيٍّ موجودٍ على أرضِ غزَّةَ يُعتبرُ بنكَ أهدافٍ للقصفِ والتَّدمير. منذُ اليومٍ الأوَّل انتهكوا كلّ الحدودِ وكلّ قوانينِ حقوق الإنسان؛ أصلاً هم لا يعتبرون أنَّ هناك بشرًا في غزَّة كي تكون لهم حقوق، ألمْ يقلْ وزيرُ جيشهم بأنَّهم يقاتلون حيواناتٍ بشريَّة! ودَّعنا زميلنا المسعفَ طارق في السَّاعات الأولى، طارق عاشور من أحسنِ النَّاسِ ومن أشجِّعِ النَّاس ومن أطيبِ النَّاس. سقطَ في اليومِ الأوَّل من القصفِ وهو يسعف الجرحى، لقد قتلوه وهو يؤدِّي عمله. 

مشفى المعمدانيِّ

لَا يَبعُد مَشفَى المعْمدانيِّ عن مُجمَّع الشِّفَاء بِأكْثر مِن خَمسَة كِيلومتْرات، كُنْت هُنَاك عِنْدمَا وَصلَت أَشلَاء النَّازحين الَّذين كَانُوا فِيه لَحظَة القصْف، كان الواصلون فِي مُعظمهِم جُثثاً مُتَفحمَةً.
 - تَوقَّف فَجأَة عن الكلَام ثُمَّ نظر لِلْأسْفل كَأنَّه يَبحَث عن شَيْء يَتَحرَّك حَولَه فِي الأرْض، عَيْناه لَا تتوقَّفان ترْمشَان. عَدّل جلسَته ثُمَّ حَرَّك رَأسه بِاتِّجاهي دُون أن تَلتَقِي نظراتنَا، عَيْناه تبْحثَان عن شَيْء بعيد، هِضَابُ الدَّمْع فِي عيْنيْه أَخذَت تَتَرجرَج، حَبَّات مِن الدَّمْع أَثقَلت رُمُوشَه، ضَرْب اَلْهَواء بِيَده أَمَام عيْنيْه كَأنَّه يَبعُد حَشرَة تُحَاوِل أن تَقتَرِب مِنْه، اِلتقَت نظراتنَا لَحظَة ثُمَّ تَابَع الكلَام: 
فِي ذَلِك اليوْم طلب مُدير المشْفى الدُّكْتور مُحمَّد أَبُو سَلمِية مِن جميع الطَّواقم الطِّبِّيَّة النُّزول لِقسْم الطَّوارئ فوْرًا، كان القسْم مليئًا بِالْأشْلاءِ البشريَّة والْجثث المتفحِّمة والْأهالي الَّذين يبْحثون عن أقاربِهم، وَكَأننَا كُنَّا فِي حُجرَة مِن حُجرات الجحِيم، اَلأَسرة مُمتلئَة، جُثَث على الأرْض، جَرحَى ودماء فِي الممرَّات بيْن اَلأقسام، أُمَّهات يبكِين، أَحيَاءٌ يُمْسكون أَيادِيَ أَموَاتٍ بِلَا مَلامِح ويرْفضون أن يتْركوهَا، صبيٌّ يَنفُخ فِي جُثَّة اِمرأَة مُقَطعَةِ الأوْصال -كانت أمَّهُ- مُحاوِلاً إِعادتهَا لِلْحيَاة، رَجُلٌ آخر يَجمَع أَشلَاء جُثَّةٍ لِطفْل، خَيْط رفيع مِن دِمَاء سَوْداء وحمْرَاء يَتَجمَّع لِيشكِّل سَيْلاً صغيرًا مَا يَلبَث أَحدُهم أن يَقُوم بِمسْحه عن البلَاط. 

قضايا وناس
التحديثات الحية

أتوْا بِطفْلة فِي الخامسة عَشرَة مِن عُمْرِها مُصَابَة بِحروق كَبِيرَة تَصرُخ بِالْقرْب مِن جُثَّة مُتَفحمَة لِطفْلة أُخرَى، كَانَتا أُخْتيْنِ مِن عَائِلة الكحْلوتْ، بَدأَت أُعَالِج اَلأُولى مُحاوِلا طمْأنتهَا، كَانَت تَصرُخ "أنَا مَا فِيني شي، أنَا مَا فِيني شي، وينْها أُخْتِي؟ أُخْتِي اِسمهَا أَمانِي الكحْلوتْ"، كَانَت تَبكِي وتصْرخ اِسْم أُختِها بَاحِثة عَنهَا، البنْتُ الميِّتة بِقرْبِهَا كَانَت هِي أُختُها المتفحِّمة اَلتِي لَم تَتَعرَّف على ملامحهَا.
طَافَت هِضَاب الدَّمْع خَلْف أهْدابه وانْفجرتْ أخيراً، بدأ النَّشيجَ بِصَوتٍ مَكتُوم، حاولتُ مُواساته قَبْل أن يَرفَع رَأسه ويمْسح بِيديْه أهْدابه التِي تَفَتّلتْ وتقطّرتْ عليْهَا بقايَا الدُّموع: 
أخْرجْنَا الفتَاة مِن قِسْم الطَّوارئ وَوضعنا أُختَهَا بَيْن جُثَث الشُّهداء. لَقد اِنْهرْتُ فِي تِلْك اللَّحْظة تمامًا وفكَّرْتُ في الْخروج. مِن الظُّلْم والْقسْوة تَصوِير الرِّجَال بِأنَّهم مُتماسكون دائمًا، كُنْت عاجزًا عن النُّطْق وَحَاولت التَّماسك مِن جَديد بِدافع الواجب فقطْ، وَاجبِي المهْنِي نَحْو هؤلاء البشر، نَحْو أَهلِي، نَحْو هؤلاء الضَّحايَا. تَمَاسكت وَأَكملت. أَصعَب الأوْقات كَانَت عِنْدمَا أَقُوم بِتبْدِيل ثِيابي الجراحيَّة ليلاً، كُنْت أنهَارُ وَأنَا أَنظُر إِلى ثِيابي اَلتِي تَقطُر مِنهَا الدِّمَاء، فِي هَذِه اللَّحْظة كُنْت أَبكِي وَحدِي فِي غُرفَتَي، كُنْت أعيش الموْت يوْميًّا مع الأجْساد الممزَّقة والْمحْروقة والْأطْفال الموتى وثيابي فِي آخر النَّهَار تَقطُر بِالدِّماء. هل تَعرفِين مَا هُو الأكْثر إِيلامًا مِن كُلِّ هذَا؟ 
الأمَّهات. كُنَّ أَكثَر مَا آلمني، تَصوّرِي أُمَّهاتٍ يَدُرنَ حَولَك طَوَال الوقْتِ ويسْأَلْن عن مصير أبْنائهنَّ، تَخيلِي أَنهُنَّ يَعتقِدنّ أَنَّكِ قَادِرةٌ على مَنْح الحيَاة لِأبْنائهنَّ، تَخيلِي كمْ مَرَّة سأجيب وَبأَي طَرِيقَةٍ بِأنَّ أبْناءهنَّ قد مَاتُوا.

تَصوّرِي أُمَّهاتٍ يَدُرنَ حَولَك طَوَال الوقْتِ ويسْأَلْن عن مصير أبْنائهنَّ، تَخيلِي أَنهُنَّ يَعتقِدنّ أَنَّكِ قَادِرةٌ على مَنْح الحيَاة لِأبْنائهنَّ، تَخيلِي كمْ مَرَّة سأجيب وَبأَي طَرِيقَةٍ بِأنَّ أبْناءهنَّ قد مَاتُوا

 

غزّة الصغرى

يحتوي مجمَّعُ الشِّفاء على ثلاثة مبانٍ أساسيَّةٍ: مبنى الطَّوارئ، مبنى التَّخصُّصات، ومبنى الولادة، إضافةً لمبانٍ فرعيَّةٍ للإدارة والتَّخزين. يقوم المجمَّع، وهو الأكبر في كلِّ قطاع غزَّة، بتقديم الخدمات الطّبِّيَّة لأكثرَ من مليون غزيٍّ، لذلك عندما بدأت إسرائيلُ هجومها البرِّيَّ في بدايةِ نوفمبر ووزَّعوا منشوراتٍ تأمرُ النَّاسَ بالتَّوجُّهِ جنوب وادي غزَّة، عرفنا أنَّ لديهم نيَّة لاقتحام المجمَّع، كانت خطَّةُ التَّهجير واضحةً وتحتاج لتنفيذها حرمانَ الأهالي بدايةً من خدمات الإسعاف وبقيَّة الخدمات الطّبِّيَّة. 
في البداية بدأوا يقصفون محيطَ المشفى، كانت حرباً نفسيَّة لإرغام أكثر من سبعين ألف نازحٍ ومريضٍ على مغادرة المجمَّع، ومع اشتدادِ القصف على مدينة غزَّة، تحوَّلتْ معظمُ مباني المشفى لخدمة الإسعاف، أنا متخصِّصٌ في أمراض القلب وبقيت أعمل في قسم الأمراض القلبيَّة إضافةً لعملي الإضافيِّ في قسم الإسعاف والطَّوارئ. آلةُ القتل الإسرائيليَّة تعمل على مدار السَّاعة، المجازرُ على مدار السَّاعة والجرحى يصلون إلى المشفى على مدار السَّاعة، كان مجمَّعُ الشِّفاء حاجزَ الدِّفاع الوحيد تقريبًا عمَّن يسعفه الحظُّ وينجو من المجازر اليوميَّة المتوالية بفعل القصف الإسرائيليِّ على شمال غزَّة بكامله. امتدَّ القصفُ من محيط المجمَّع ليشمل قسم الولادة ومبنى غسل الكلى والأقسام الإداريَّة ومن ثمَّ استهدفوا مبنى العناية المركَّزة، اتَّصلنا بكلِّ وسائل الإعلام الَّتي وصلنا إليها، كنَّا نصرخ أمام العالم كلِّه أنَّ الجيش الإسرائيليَّ يقتحم مشفى الشِّفاء بمرضاه ونازحيه السَّبعين ألفًا، لكنْ تُركنا وحدنا، ولم يكن لاستغاثاتنا أيّ جدوى. 
حاصرتنا الدَّبَّابات الإسرائيليَّة، منعوا الجرحى الجدد من الوصول إلى المشفى، المرضى والنَّازحونَ داخلَ المجمَّع ونحن معهم أصبحنا سجناءَ بلا كهرباء ولا ماء ولا غذاء، يحيطُ بنا القنَّاصون والدَّبَّابات وطائرات الدّرون. هناك العديد من الحالات الحرجة التي لا تقوى على الخروج، إخراجها بهذه الحالة يعني قتلها، لذلك لم يكنْ من خيارٍ غير الصُّمود. جمعنا المياهَ والمعلَّبات الغذائيَّة في قسم الطَّوارئ وتجهّزنا لحصارٍ لا نعرف كم سيطول، المهندسُ المسؤول عن إمداداتِ الكهرباء استطاعَ أن يبقيَ التَّيَّارَ الكهربائيّ حصرًا على قسم الطَّوارئ لأهمِّيَّته بالنِّسبة لحياة البشر الَّذين يعيشون على آلاتِ التَّنفُّس الاصطناعيِّ أو حاضنات الخدّج، لدينا الوقودُ المخزن قبل الحصار وجاءنا أيضًا بعض الوقودِ الإضافيِّ الَّذي تبرَّعت به بعضُ محطَّات الوقود الخاصّة في غزَّة، لن يكفي كثيرًا هذا الاحتياطيّ القليل، لكنَّ قَصر استخدامنا للطَّاقةِ الكهربائيَّة على تلك الآلات، سيعطي تلك الأجسادَ المنهكةَ وقتًا أطول للبقاء متشبِّثةً بأرواحها.
الموت رحمةٌ، كنتُ أقولُ لنفسي في كلِّ مرَّة نرفعُ أجهزة التَّنفُّس الصِّناعيِّ عن أحدٍ أسلم الرُّوح، لقد قرأتُ كثيرًا عن أطبَّاء في حروبٍ سابقة في هذا العالم أعطوا مرضاهم حقنةَ الموتِ الرَّحيم، هل تعلمين! في كلِّ مرَّةٍ أنظرُ في عيونِ الأطبَّاء الَّذين كانوا في المشفى أشعرُ كما لو أنَّنا أقسمنا جميعًا أن نتشبَّثَ بأرواحِ مرضانا حتَّى آخر نفس.
حتَّى الآن ما زالتْ دبَّاباتهم تحاصرُ المباني، لكنَّهم لم يدخلوها بعد، بالأمسِ قنصوا رجلاً يقف بالقرب من الشّباك، كان مرافقًا لابنه الجريح وقُتلَ أمامه. الدَّبَّاباتُ تسير على الجثث، تسحقُها أمامَ أعيننا، تجرفُ السَّيَّارات، تكوُّمها ثمَّ تعجنها، كانوا يتلذَّذون بتدميرِ المباني والسَّيَّارات والأبواب، كلُّ شيءٍ منتهكٌ، كانوا يتعمَّدون إذلالنا، يُسعدُهم ذلك، يُضحكهم.

رضع جرى إجلاءهم من مستشفى الشفاء- 14 نوفمبر 2023 (الأناضول)
رضع جرى إجلاءهم من مستشفى الشفاء- 14 نوفمبر 2023 (الأناضول)

توقّف برهةً عن الكلام، ملأ رئتيه بالهواء. كانت رموشهُ قد توقَّفتْ قليلاً عن الاهتزاز، أشاحَ وجهه جانبًا، كان ينظر بعيدًا في أعماقه باحثًا عن شيءٍ ما، ببطءٍ أفرغَ الهواءَ من رئتيه وتابع َالكلام:
كان كلُّ شيءٍ داخلَ بناء المشفى يعتمدُ علينا، لقد فعلنا كلّ شيء، في البداية كان الأمر يبدو غريبًا، الأطبَّاء والممرِّضون والمرافقون والفنِّيُّون، كنَّا نقوم بأعمال النَّظافة، نجهِّز الطَّعام، نعمل كمعالجين نفسيِّين ومن ثمَّ نصبح مراسلين حربيّين؛ قطعوا الاتِّصالات عن كلِّ مناطق الشِّفاء لتنقطع أخبارنا عن العالم لثلاثة أيَّام، كان يجبُ أن نفعل شيئًا، أنا أعرفُ أنَّ هناك تغطيةً ضعيفة في منطقة الجسرِ الَّذي يربطُ بين مبنيين في المجمَّع، كنتُ أذهبُ هناك كي اطمأنَّ على أهليّ، لكنَّ المشكلة أنَّ المنطقةَ مكشوفةٌ والَّذي يذهب إلى هناك يصبحُ هدفًا سهلًا للقنص، كنَّا نزحفُ تجنُّبًا لعدسات القنَّاصين وطائراتهم المسيرة، فعلنا هذا أكثر من خمسين مرَّة، يجب أنْ تصلَ المعلومات إلى العالم الخارجيِّ، في اللَّيل كانت القنَّاصاتُ ترسلُ أشعَّة ليزر تمسح المنطقة بكاملها وكنَّا نزحف خلال كلِّ ذلك، أنا الآن لا أصدِّقُ كيف كنَّا نفعل ذلك، لقد كان الجميعُ جاهزًا للموت، فقط كي يبلغوا أخبارَ المرضى للعالم الخارجيِّ، لقد كنتُ أقلّهم مخاطرة. بدأ الماءُ والغذاء بالنَّفاد، أصبحت شفاهُنا بيضاءَ متشقِّقةً من العطش، حتَّى أصبح من العسير على أيِّ شخصٍ يرانا أوَّل مرَّة أن يميِّز من هو المريض ومن هو الطَّبيب.
بدأ الأطْفال يَسقُطون مَرضَى تَحْت وَطأَة اَلجُوع، اَلهُزالُ مَنح وُجوههمْ مَلامِح من سَيصبِح قريبًا تَحْت مِنجَل الموْتِ. إِحْدى زَوْجات المسْعفين اَلتِي عَلمَت مِن زوْجهَا بِاحْتمال وُجُود بَعْض المعلَّبات فِي غُرفَةٍ تقع على بَوَّابة المشْفى، قَررَت وحْدهَا مُوَاجهَة الجيْش الإسْرائيليِّ، خَرجَت تِلْك المرْأة لِتلْحق بِهَا ثَلَاث نِسَاء أُخْريَات نَحْو تِلْك اَلغُرفة المحاطة بِالدَّبَّابات. كَانَت لَحظَةً عَصيَّةً على التَّصْديق، أَربَع نِسَاء وحدهنَّ فِي مُوَاجهَة كَتِيبَة جُنُودٍ مُدجَّجِين بِالْقنَّاصة ومحاطين بِالْمدرَّعات، كُنَّا وَرَاء البوَّابة نُنَادِي عَليهِنّ كيْ يرْجعْن ولكنَّهنَّ اسْتمررن يتقدَّمْن. خُطُوط اللِّيزر الحمْراءَ الصَّادرة عن فُوَّهات بَنادِق القنَّاصة الإسْرائيليِّين بَدأَت تَجِد طريقَهَا نَحْو أجْسادهنَّ ورؤوسهنَّ، بَقِينَا نَصرُخ عَليهِن كيْ يرْجعْن ولكنَّهنَّ لَم يخفن ولم يَستجِبن لِندائنَا، كدت أَفقد توازني، عرفت قبْلاً أَنّهَا ثَانِيةٌ وَاحِدةٌ تَفصِل الرَّصاصة عن شُعَاع اللِّيزر الأحْمر اَلذِي تُطْلِقه البنْدقيَّة. لَا أَعرِف مَا حصل بَعْد ذَلِك وكيْف حصل، لَكننِي وَجدت قَدمَي تَركُضان بجسدي نَحوهن، رمَيت بِنفسي أمامَهنَّ وبدأت أَصرُخ بِجمل قَصِيرَة أَعرِفها بِالْعبْريَّة: أنَا طبيب، لَا تُطْلقوا النَّار، أنَا طبيب، أَشعَّةٌ حَمْراءُ بَدأَتْ تسيرُ بِبطْءٍ على وَجهِي، هل تَعرفِين! لَقد مَرَّت حَياتِي خطْفًا أَمَام عَيني فِي تِلْك اللَّحْظة، لَقد كُنْت جاهزًا لِلْموْتِ، بلْ لَعلنِي كُنْت أَبحَث عَنْه، كُنْت أَطلُبه. بَدأَت أَمشِي لِلْخلْف والنِّساء وَرائِي، سُمعَت بُكَاءً مَكتُوماً، فبدأتْ أَقُول لَا تخْفن، لَا تخْفن، بَقينَا نَتَراجَع هَكذَا حَتَّى أوصلْتهم إلى البوَّابة.

"تَعَال أَنْت وَحدَك" جاء صَوْت جُنْدِيٍّ إِسْرائيليٍّ يَتَكلَّم العربيَّة مِن خِلَال مُكبِّر الصَّوْتِ! "اِخْلع ثِيابك وارْفع يديْك"، نَفذت الأوامر بِانْضباط أسير، بَقيت عاريًا وَيَداي لِلْأعْلى وَأنَا أَصرُخ وأقْسم بِأَنه لَا يُوجَد فِي الدَّاخل سِوى المرْضى، تَابعتُ الصُّرَاخَ: لَقد فقدْنَا كُلّ مُقومَات الحيَاة؛ اَلْماء والطَّعام، سَوْف يَمُوت اَلجمِيع مِن اَلجُوع والْعَطش قريبًا. أنَا أُقْسِم أَنَّه لَا يُوجَد سِوى حالات حَرجَة وَإصابات خَطِرَة بين الأطْفال والنِّساء والْجرْحى المدنيِّين. نَظرت إِلى نَفسِي، كُنْت مَا أَزَال عاريًا. ثُمَّ عُدْت وكرَّرت نَفْس الكلَام بِلَا تَوقُّف، أنا فقط أَطلُب اَلْماء والطَّعام. ثُمَّ تَوجهَت بِحديثي لِرفاقه مِن اَلجُنود: أغْلبهم أَطفَال، تعالَوْا وشاهدوا بِأعْينكم، اُدْخُلوا، إِنَّهم مُجرَّد أَطفَال يَبكُون مِن اَلجُوع.
كَانَت أَوَّل مَرَّة أَلتَقي الجيْش الإسْرائيليّ وجْهًا لِوَجه. تَخيلِي هذَا! أنَا أعيش فِي غَزَّة اَلتِي جَعَلوهَا سِجْنًا كبيرًا، يُحاصروننَا ويمْنعونَنا مِن اَلخُروج والدُّخول منذ سنين طويلةٍ، يقْتلونَنا بِصواريخهم مُنْذ سِنين طَوِيلَة وَهذِه هِي المرَّة اَلأُولى اَلتِي أُواجههم بِهَا. هل تَعرفِين مَاذا حصل بعد ذلك!؟ فِي اللَّيْل قَالُوا لَنَا: تعالَوْا جِئْناكم بِالْمَاء! نَحْن صدقْناهم. سَمحُوا لَنَا بِالتَّحرُّك مِن مَبنَى لِآخر فقط لِنأْتي بِالْمَاء الذي قالوا إنّهم جلبوه! لكن كان هذَا كذبًا، لَم يَأتُوا لَنَا بِالْمَاء، سَمحُوا لَنَا بِالتَّحرُّك إِلى مَبْنى آخر، وَفي هذَا المبْنى كُنَّا خزّنّا ماءً قَبْل الحصَار. هم نَزعُوا اللَّواصق العربيَّة عن عبوات الماء، ووضعوا فوْقهَا لَواصِق بِالْعبْريَّة، كان مَكتُوباً عليْهَا: مُقَدمَةٌ مِن جَيْش الدِّفَاع الإسْرائيليِّ! فَهمْتُ أَنّهُم اِلتقطوا صُوَراً ووزَّعوهَا على الإعْلام، ليدّعوا أنَّهم أَعْطَونا اَلْماء. شَعرَت أَننِي سأنْفَجر، يقْتلوننَا ثُمَّ يكْذبون، لِم أَستَطع الصَّمْت ونَقلَت لِوسائل الإعْلام مَا فَعلُوه.
لَم يَبْق لَديْنَا سِوى بَعْض التَّمْر لِنطْعِمه لِلْجرْحى، كُنَّا نَشرَب ماء المعلَّبات المالح، أعطِيت أَخِي اَلمُصاب بَعْض التَّمْر، كَانُوا يسْتهْدفون المسْعفين الَّذين يُنْقذون النَّاس، أَخِي كان واحدًا مِنْهم ولم يَكُن مُسَلحًا. فِي غِيَاب اَلْماء كَانَت الحمَّامات عِبْئًا إِضافِيًّا عليْنَا عِنْد قَضَاء الحاجة، تَكُون الحيَاة وَاهِية جِدًّا عِنْدمَا يَعجِز البشر عن القيَام بِحاجاتهم الأوَّليَّة! أصْبحْنَا فِي حَالَة يُرثَى لَهَا، بدأْنَا نضْعف، وتراكمتْ الأوْساخ! صَارَت أجْسادنَا سُجونًا! صَارَت ثَقِيلَة. اِزْدَاد الوضْع سُوءًا مع نَفَاد الوقود، بدأْنَا نفصل الكهْرباء عن بَعْض الأقْسام المهِمة لِنوفِّرهَا لِقسْميْ العناية المركَّزة وَحاضِنة الأطْفال الخدّج، وَفِي النِّهاية شَارَف الوقود على النَّفَاد نِهائِيًّا وَيجِب عليْنَا المفاضلة بَيْن قِسْم العناية المركَّزة وَحاضِنة الأطْفال. كان قرارًا صعْبًا جِدًّا، كَانَت هَذِه مِن أَصعَب اللَّحظات حِين يَتَوجَّب عليْك حرْفيًّا أن تَقطَع شيْئًا مِن جَسدِك كيْ تَستطِيع عُبُور ممرٍّ ضَيِّق، حِين يَتَوجَّب عليْك أن تَقرَّر من يَجِب أن يَمُوت كيْ يعيش غَيره. فِي النِّهاية اِتّخذ القرَار وَتَقرَّر تَوفِير الكهْرباء لِحاضِنة الأطْفال على غيْرهَا مِن المعدَّات المجهَّزة لِلْعناية المركَّزة بِالْجرْحى.

غزة (داود أبو الكاس/ الأناضول)
ضحايا نقلوا إلى مشفى المعمداني، 10 سبتمبر 2024 (داود أبو الكاس/ الأناضول)

هل كان هذَا عملًا إِنْسانيًّا، لَو كُنْتِ فِي مَكانِنا مَاذَا كُنْت ستفْعلين! هؤلاء أَطفَال لَم يَأخُذوا حِصَّتهم مِن الحيَاة بعْد، مَاذَا كُنْت ستفْعلين؟ هُنَاك جَرحَى مَاتُوا أَمَام أَعينِنا ولم نَستَطِع أن نَفعَل لَهُم شيْئًا، لَا أُريد اَلحدِيث عن هذَا الموْضوع أَكثَر.
تَوقّف عن الكلَام ضاغطًا وَجهه بِكفَّيْه، كان يَبكِي بِلَا دُمُوع. اِستمَر الصَّمْتُ لِفتْرة ثُمَّ رَفع كفَّيْه عن وَجْهٍ بِعينين حَمْراوين، مَرَّر أَصابِعه بَيْن شِعْرِه وقذاله نُزولًا عِنْد رَقبَتِه، قَبْل أن يَبدَأ اَلحدِيث مِن جديد بِصَوت أَكثَر هُدوءًا وَبلَا اِنفِعال:
فِي مُنتَصَف شَهْر نُوفمْبر، رفض وزير الصِّحَّة الدُّكْتور يُوسُف أَبُو رِيش طلب الجيْش الإسْرائيليِّ بِالْحضور لِيذْهب بدلًا عَنْه الأطبَّاء مَرْوَان أَبُو سعْدَة ومحمَّد أَبُو سَلمِية، وَفِي هذَا اللِّقَاء أمر الجيْش الإسْرائيليُّ بِإخْلَاء المشْفى تمامًا؛ قَالُوا بِالْحَرْف: عليْكم إِخلَاء المشْفى وَإلَّا سَنقصِفه فَوْق رُؤوسِكم. كان اَلمُجمع مليئًا بِالْآلاف مَا بَيْن مَرضَى ومرافقين ونازحين وطواقم طِبِّية، طَلبنا سيَّارَات إِسعَاف كيْ تَنقُل الجرْحى اَلذِين لَا يسْتطيعون الحرَكة، وَطَلبنَا سيَّارَات خَاصَّة لِنَقل الرُضّعِ فِي الحاضنات، رفض الجيْش الإسْرائيليُّ طَلبَنا، الضَّابط الإسْرائيليُّ قال لِي: لَن نُعْطيكم سيَّارَات إِسعَاف، اِحْملوهم على أكْتافكم واخْرجوا مِن هُنَا. اِتَّصل الدُّكْتور مُحمَّد أَبُو سَلمِية بِجميع وَسائِل الإعْلام وأعْلن أنَّ الجيْش الإسْرائيليَّ يَطلُب مِنَّا اَلخُروج بِهَذه الطَّريقة اَلتِي سَوْف تُؤدِّي إِلى قَتْل الأطْفال والْجرْحى، وَفِي اليوْم التَّالي سمح جَيْش الاحْتلال بِنَقل الأطْفال الخدّج فِي حاضنَات، كَانُوا أَربَعة وثلاثين خَدِيجًا مات مِنْهم ثَلاثَة وَوصَل الباقون إِلى مِصْر، ولم يُفوِّت الإسْرائيليُّون فُرصَة خُرُوج الرُّضَّع مِن المشْفى كيْ يُعْلنوا أَنهُم هُم مِن أَنقَذ هؤلاء الأطْفال. وَمِن ثمَّ كَرَّر الجيْش تهْديداته بِقَصف المشْفى على رُؤوسِنَا، كان الأمْر مُؤْلِمًا ولم نَكُن نُريد المخاطرة بِالْأهالي والْعائلات، خرج كُلُّ من يَستطِيع المشْي لِيبْقى فِي المشْفى مَا يزيد عن مِئَتي مُصَاب لَا يسْتطيعون المشْي، أَخِي كان مِنْهم وَبَقينَا مَعهُم. نزلْنَا إِلى الطَّوابق السُّفْليَّة خوْفًا مِن القصْف المتوقَّع، كان الإسْرائيليُّون يفْعلون كُلّ شَيْء، لِذَلك أخذْنَا تهْديدهم على مَحمَل اَلجِد، بَقينَا أُسبُوعا نُطَالِب بِسيَّارات إِسعَاف لِإخْرَاج المرْضى مَبتُوري الأطْراف والْمقْعدين، واسْتَمرَّ الضَّابط الإسْرائيليُّ بِرفْضه. كان الصِّرَاع بِداخِلي يُمَزقنِي بَيْن أَخِي اَلذِي أَرَاه أَمامِي بِحاجة إلى مِن يُخْرِجه مِن المشْفى وبيْن بَقيَّة الجرْحى الَّذين لَيْس لَديهِم من يَتَولَّى أَمرهم. كُنْت أهمّ بِأَخي لِأحْضره لِلْخروج ثُمَّ أَتَراجَع. طِفْلَة مُصَابَة لَا تَستطِيع الحرَكة صَرخَت قُرْبِي مَذعُورة: لَا تتْركونَا وحْدنَا، فِي تِلْك اللَّحْظة اِنْهرْتُ تمامًا ثُمَّ جاء الدُّكْتور مُحمَّد أَبُو سَلمِية مُدير المشْفى وَبدَأ يَتَكلَّم مع الطَّاقم الطِّبِّيِّ: يَا شَبَاب الثَّبَات الثَّبَات. حَسمَت خِياري بِالْبقاء، طَلبت مِن أَخِي الخُروج مع جارنَا على كُرْسِي مُتَحرك لَكنَّه رفض اَلخُروج، قُلْت لَه أنَا لَن أَستطِيع اَلخُروج، يَجِب أن أَبقَى، لَن أَترُك الجرْحى. وَأنَا لَن أَخرُج بِدونك، نعيش معًا أو نَمُوت معًا، ردّ أَخِي. فِي اليوْم التَّالي تحْديدًا فِي يَوْم السَّابع عشر مِن نُوفمْبر، أعْطانَا جَيْش الاحْتلال إِنْذاره اَلأخِير بِواجب اَلخُروج فِي اليوْم التَّالي مِن السَّاعة التَّاسعة صباحًا حَتَّى الواحدة بَعْد الظُّهْر وَإلَّا سيقْصفوننَا دُون هَوادَة، هل تَعرفِين مَاذَا فعلْنَا! لَقد خرجْنَا لَهُم، خرج الطَّاقم الطِّبِّيُّ بِكامِله أَمَام الجيْش الإسْرائيليِّ، كُنَّا سَبعَة أطبَّاء؛ مُدير المشْفى مُحمَّد أَبُو سلمِية، مَرْوَان أَبُو سعْدَة، مُعتَز حَرارَة، مُحمَّد عِيد، جَمَال الحرازين، أَحمَد الوحيدي وَأنَا، ومعنَا ثَلَاث مُمرضَات، كان هذَا كُلّ الطَّاقم الطِّبِّيِّ الباقي، قُلنَا لَهُم: لَن نَخرُج ولن نَترُك جرْحانَا، ونريد سيَّارَات إِسعَاف لِنخْرج مَعهُم. عدَا عن ذَلِك، اِفْعلوا مَا شِئْتم، اُقْتلونَا، اِقْصفونَا، سَنمُوت مَعهُم. هَيَّا صَورُونا واقْتلونَا، سَوْف نَبقَى لِآخر لَحظَة، لَسنَا أَفضَل مِن غيْرنَا، سَوْف نَمُوت مع جرْحانَا. قُلنَا أَشيَاء كَثِيرَة. أَذكُر أَننَا قُلنَا أيْضًا، لَقد قصفْتم المشافي والْمقابر، ولن نَكُون أَفضَل مِن الآخرين، اِفْعلوا مَا شِئْتم، لَن نَترُك جرْحانَا! مَاذَا حصل بَعْد ذَلِك؟ 

لم يُفوِّت الإسْرائيليُّون فُرصَة خُرُوج الرُّضَّع مِن المشْفى كيْ يُعْلنوا أَنهُم هُم مِن أَنقَذ هؤلاء الأطْفال


لَم يقْصفونَا، لَكنَّهم اِقْتحموا المشْفى.
لَم يقْصفوا المشْفى لَكنَّهم فَعلُوا الأسْوأ دَاخله، مارسوا هَمَجيَّة لَا تُوصَف، حَفرُوا هُنَا وهناك، دَمرُوا الجدْران والْأجْهزة، لَقد حَطمُوا جِهَاز اَلرنِين المغْناطيسيِّ اَلوحِيد فِي غَزَّة. فِي البداية وَضعُوا أَسلِحة جَلَبوهَا مَعهُم قُربه، وقاموا بِتصْويرهَا. مَا يفْعلونه غَبِي جِدًّا، فليْس مِن عَاقِل بِوسْعه أن يَتَخيَّل سِلَاحًا مَعدنِيًّا فِي غُرفَة رنين مِغْناطيسيٍّ، كَانُوا يُريدون أن يقولوا لِلْعالم اُنْظُروا لَقد وجدْنَا أَسلِحة دَاخِل المشْفى، كُنْت أُشاهدهم يزوّرون كُلّ شَيْء.
اِقْتحموا المباني الفارغة وحفروا فِي اَلغُرف والْمخابر وَفِي الأقْبية، حَولُوا المشْفى إِلى حُفَر وَإلَى رُكَام مِن تُرَاب. كُنَّا نَقُول لَهُم لَا يُوجَد أحد هُنَا! قَالُوا: إِنَّ معْلوماتهم تَقُول بِأنَّ هُنَا يُوجَد مُقاتلون! كَانَت هَذِه حُجَّة فقط، وكانوا يَصرُخون ويتَّهموننَا بِأنَّنَا نُخْفِي الرَّهائن. رَغْم كُلِّ اِدِّعاءاتهم ورغْم كُلِّ حفْريَّاتهم لَكنَّهم لَم يَجدُوا أيّ شَيْء مِمَّا يَدّعُونه، هُم وَجدُوا فقط سِلَاح الأمْن المدَنيِّ اَلذِي يَحمِي المشْفى، وَهُم شُرطَة تَحمِي النَّاس، لَا يُوجَد فِي العالم مَشَاف بِلَا شُرطَة وَهؤُلاء لَا دَخْل لَهُم بِالْمقاتلين. أَتحَدث هُنَا عن شُرطَة مَدَنيَّة لِحماية مِرفَق. لَم يسْتطيعوا إِثبَات أيِّ نَظَريَّة مِمَّا زَعمُوه. كُنْت مَعهُم حِينهَا.
بَعْد أن اِنْتهَوْا مِن تَمشِيط وحفْر وَتدمِير المباني الفارغة، دَخلُوا المباني اَلتِي يُوجَد فِيهَا نازحون ومرْضى. وكيْف دَخلُوا؟ فَجأَة، فَجّرُوا اَلْباب ودخلوا! لَقد فَعلُوا ذَلِك كمَا يفْعلون فِي الأفْلام السِّينمائيَّة، كان بِإمْكانهم فَتْح اَلْباب بِبساطة والدُّخول، أَظُن أنَّ التَّفْجير كان بِقنْبلة! لَسْت مُتأكِّدًا، لَكِن الصَّوْتَ كان قويًّا جِدًّا، وَذُعر اَلجمِيع. هل تَتَخيَّل جيْشًا يَقتَحِم قِسْم العناية المشدَّدة لِمشْفى بِالْقنابل! بَعْد ذَلِك اِنْتشروا بِطريقة عُدْوانيَّة وقاموا ببْطحْنَا أرْضًا. نَحْن الطَّاقمَ الطِّبِّيّ والنَّازحينَ والْمرْضى الَّذين بَقُوا في أسّرتهم، لَم يسْتطيعوا التَّحَرُّك. لَكِنّ الإسْرائيليِّين اِسْتجْوبوهم وعنّفوهم وعذَّبوهم رغْم أنَّ إِصاباتهم وجراحهم خَطِرَة. كَانُوا بشرًا مَقطَّعِي الأوْصال ومتهالكين، يسْألونهم أَسئِلة غَرِيبَة! كَانُوا مُجرَّد بقايَا أَجسَاد بَشَريَّة، والْمرْضى يُقْسمون أَنهُم ناس عاديُّون، وأنَّهم كَانُوا فِي بُيوتِهم عِنْدمَا بَدأَت أَحدَاث أُكتُوبَر. كَانُوا يبْحثون عن أَسمَاءٍ مُعَينَة. كان مَعهُم أَسمَاء كُلِّ شَخْص لَديْه عَلاقَة بِوزارة الدَّاخليَّة، يَعنِي أن أيَّ شَخْص مُوظَّف حُكوميٍّ بِالنِّسْبة لَهُم هُو مَطلُوب. أَغلَب النَّاس مُوظَّفون! كان شَيئاً يَدعُو لِلْجنون، إِذ إِنَّهم لَا يبْحثون عن مُقاتلين، هؤلاء يُريدون أَخْذ كُلِّ النَّاس! لَقد اِعْتقلوا الموظَّفين لِأنَّهم فقط مُوظَّفون! رأيْتُ ذَلِك بِعيْني. أحد المرْضى كان مَقطُوع الرّجليْنِ والْيد اَليُسرى مَقطُوعة. رَفض أن يُعْطِي الضَّابط الإسْرائيليّ هُويَّته. فَطلَب مِن جُنْدِي أن يَدخُل. دَخل الجنْدِي مُدَججًا بِالسِّلاح وأجْرى مسْحًا إِلكْترونيًّا لِوَجه اَلمرِيض. بُعْد دقيقتيْنِ، اِعْتقلوه أَمَامنَا! أَمَّا كَيْف فَعلُوا ذَلِك! لَقد كُنَّا أَمَام حَفلَة تَعذِيب وضرْب سَادِية لِرَجل مَقطّع الأوْصال. كَانُوا يضْربونه على أطْرافه المبْتورة وَعلَى جُروحه. صَرخَت النِّسَاء ورجَونَ الجنود أنَّ يعْتقلوه دُون هذَا الشَّكْل مِن التَّعْذيب اَلوحْشِي! لَقد صرخ اَلجمِيع لِأنَّ المنْظر كان رهيبًا! لَقد كَانُوا يُعذِّبوننَا معه عِنْدمَا عَذّبُوه أَمَامنَا، كُنَّا نَشعُر بِالذُّلِّ والْإهانة وَهُم يضْربونه وَفِي النِّهاية أَخذُوه، لَقد عَذبُوه أَمامِي وَأنَا طَبيبه لَم أَستَطع أن أَفعَل لَه شيْئًا.

الجيْش الإسْرائيليّ لَم يَتَوقَّف عن الحفْريَّات، واِسْتمَرَّتْ نِداءاتنَا لِوسائل الإعْلام بِإخْلَاء المصابين، وَبقِي موْقفنَا ثابتًا بِأنَّنَا كأطبَّاء لَن نَخرُج دُون مَرْضَانا


اِعْتقلوا نَاسًا كَثُرا. لَم يُفرِّقوا! اعْتقلوا بِوحْشِيَّة وَهمجِية! تَفاصِيل تَعذِيب رأيْناهَا لَا يُمْكِن التَّفْكير أنَّ كائنًا بشريًّا يُمْكِن أن يفْعلَهَا. بَعْد أن أَنهَوا اِعْتقالاتهم، جاء إِليّ الضَّابط وَقَال: تَعَال، أَنْت مُمرِّض؟ قُلْت لَه: أنَا الدُّكْتور خَالِد أَبُو سَمرَة. أَخذَني إِلى الطَّابق الثَّاني. كُنَّا جميعًا، نَحْن الأطبَّاء والْمرْضى فِي الطَّابق الأوَّل. أَخذَني معه، لَديْنَا ثَلاثَة طَوابِق أُخرَى. كان هُنَاك طَابق كَامِل لِلْعمليَّات. أدْخلَني إِحْدى اَلغُرف وَقَال: نَحْن نُريدك، لَن نُعْتقلك، نُريد مِنْك خِدْمَة حَتَّى تَستطِيع اَلْعَودة لِأهْلك. إِذَا أردْت رُؤْيتهم، عليْك أن تُنفِّذ مَا أقوله. سكتُّ. قال: سندْخل غُرفَة غُرفَة، نَحْن سنفجِّر اَلغُرف المغْلقة، قَبْل دُخولِنَا، وأنْتَ تَدخُل قبلنَا. قُلْت لَهُم: ومَا علاقَتي أنَا! هَددَنِي بِالسِّلاح. عَرفَت أنَّ الأمْر ومَا فِيه هُو أن أَكُون فِدْيَة لَهُم! أن يُسْتخْدموني درْعًا بَشرِيةً بِحَيث لَو كَانَت هُنَاك غُرفَة فِيهَا قُنْبُلة أو أيّ شَيْء آخر، أَمُوت أنَا وليْس هُم! كُنْت مُتأكِّدًا أَنَّه لَا يُوجَد لَديْنَا سِلَاح. وَضعُوا السِّلَاح على رَأسِي، وخبطوني وضربوني على صَدرِي وشتموني! قلت: سأفْعل مَا تُريدون. دَخلت اَلغُرف، غُرفَة غُرفَة، وسط تنْكيلهم وكانوا يقولون لِي: سَتمُوت مَعهُم لَو وجدْنَا واحدًا، ستموتون كُلكُم.
فِي الطَّابق الرَّابع، كَانَت الرِّيح تَصفر، كُنَّا فِي بِدايَات الشِّتَاء وعنْدَمَا تَفتَح اَلْباب يَتَكوَّن تَيَّار هَوَاء، فَتحَت اَلْباب ودخلتْ، قلت: لَا يُوجَد أحد، فلحقوا بِي وبدؤوا التَّفْتيش. لَكِن تَيَّار اَلْهَواء فَجأَة أَطبَق اَلْباب بِعنْف، وأصْدر صوْتًا قويًّا. اِنْبطحوا أرْضًا خَائفِين يَصرُخون! لَقد تَجمدت فِي تِلْك اللَّحْظة، تَوقعت أنَّ خوْفهم هذَا أَمامِي سيجْعلهم يُطْلقون النَّار كمَا لَو أَنهُم فَقدُوا أعْصابهم، حَتَّى الآن لَا تُفارقني هَذِه اللَّحْظة مِن الإهانة، لَحظَة اسْتُخْدمتُ درْعًا بَشرِيةً، كُنْت أُدْرِك وَقتها كم هِي حَيَاتنَا بِلَا قِيمة عِنْدهم. بَعْد أن اِنْتهيْنَا، بَقِينَا أَربَع ساعات مُتواصلة نَجُوب المشْفى، أنَا فِي المقدِّمة بنادقهم فِي خاصرَتي وَيجِب عليّ التَّقَدُّم وتلقِّي الرَّصاصة اَلأُولى إنْ جَاءَت أو الدَّوْس على اللّغم الأوَّل فِي حال وُجوده، فِي النِّهاية لَم يَجدُوا شيْئًا، كُنْت مَعهُم وَهُم يُفتِّشون وَلِم يَعثُروا على أيِّ أَدنَى إِثبَات لِأيٍّ مِن التُّهم اَلتِي أطْلقوهَا وأقْنعوا العالم بِهَا. بَعْد أَربَع ساعات مِن التَّرْهيب والتَّعْنيف والشَّتائم والضَّرْب، وبعْد أن مررْنَا على كُلِّ اَلغُرف، تَركُوني!
بَقينَا مُحاصرين فِي غُرَفنَا شبه مُعْتقلين حَتَّى يَوْم الثَّالث والْعشْرين مِن نُوفمْبر. كَانُوا يُعذِّبون الجرْحى، كَانُوا يُعذِّبونهم أَمامِي، وعنْدَمَا يتألَّمون بِشدَّة كَانُوا يُعْطونهم المورْفين كيْ لَا يغيبوا عن الوعْي. يُعذِّبونهم وينكِّلون بِجراحهم ويعْطونهم المورْفين لِيسْتطيعوا تعْذيبهم أَكثَر. كُنَّا نرى ذَلِك وَنمُوت قهْرًا. أنَا طبيب وجرْحَاي يُعذِّبون أَمامِي بِأكْثر الطُّرق وَحشِية، وَأقِف عاجزًا عن حِمايتهم!
الجيْش الإسْرائيليّ لَم يَتَوقَّف عن الحفْريَّات، اِسْتمَرَّتْ نِداءاتنَا لِوسائل الإعْلام بِإخْلَاء المصابين، وَبقِي موْقفنَا ثابتًا بِأنَّنَا كأطبَّاء لَن نَخرُج دُون مَرْضَانا. وَفِي النِّهاية وَافَق الإسْرائيليُّون على الإخْلاء بِالتَّنْسيق مع الهلَال الأحْمر والْأمم المتَّحدة وعنْدَمَا سُئلْنَا كَيْف سَيكُون الإخْلاء وكم سَيَّارة إِسعَاف نَحْتاج! أجبْنا بأنَّ لَديْنَا مِئة وسبْعين مُصَابًا يحْتاجون إلى سبْعِين سَيَّارة إِسعَاف على الأقلِّ، لَكنَّهم لَم يجْلبوا لَنَا سِوى أَربَع عَشرَة سَيَّارة إِسعَاف وباصَيْنِ صغيرَيْنِ وقالوا هذَا الموْجود ولَا شَيْء آخر، لَم نَعرِف مَاذَا نَتَصرَّف، كَيْف سننْقل الجرْحى، حشرْناهم جنْبًا إِلى جَنْب، نُزيح المبْتور على جَنبِه ونلْصقه بِالْمبْتور الثَّاني. يَا إِلَهي ذَلِك اَلجُنون اَلذِي اُضْطررْنَا لِفعْله حَتَّى نُخْرجَهم! كَيْف وَضعنا بقايَا أَجسَاد بَشَريَّة هَكذَا مِثْل حَقائِب، لَم أَستَطع النَّظر فِي عُيونِهم! حَتَّى الآن أنَا أَخجَل مِن نَفسِي، لَسْتِ بِحاجة لِمزيد مِن التَّفاصيل، أصْلًا لَا يُمْكِن لِأيِّ إِنسَان مَا زال مُتوازنًا رِوايتهَا.

مُجرَّد حَركَة الباصات فَوْق الشَّوارع المحْفورة كَانَت إِعْلانًا لِبداية حَفلَة تَعذِيب مع اَلجُروح المفْتوحة

طريق الموْت

فِي يَوْم الثَّالث والْعشْرين مِن نُوفمْبر، خرجْنَا مِن مَشفَى الشِّفَاء. كان المشْفى لَا يَزَال مُحاصَرًا مِن الخارج. مِنطَقة شَارِع الوحْدة والْمناطق المحيطة بِنَا مَزرُوعة بِالدَّبَّابات. أنَا خَرجت مع أَخِي فِي الْباص اَلصغِير اَلذِي مِن المفْروض أَنَّه يَتسِع لِعشْرِين شخْصًا، لَكِننَا معًا، بعْضًا فَوْق بَعْض، كُنَّا أَكثَر مِن خمْسين. أَغلَب الرُّكَّاب جَرحَى ومصابون. كان ذَلِك فظيعًا لِأنَّ مُجرَّد حَركَة الباصات فَوْق الشَّوارع المحْفورة كَانَت إِعْلانًا لِبداية حَفلَة تَعذِيب مع اَلجُروح المفْتوحة اَلتِي تَنزِف الدِّمَاء! كَانَت سيَّارَات اَلأُمم المتَّحدة أَمَامنَا وَسَيارَة جَيْب عَسكرِية وَرَاءنَا، وَيجِب عليْنَا أن نَتجِه إِلى الجنوب. هَذِه كَانَت أَوامِر الجيْش الإسْرائيليِّ. طَلبنا اَلخُروج لِلشَّمَال. أَهلِي فِي تلِّ الزَّعْتر وخطيبتي فِي الشَّمَال، رَفضُوا طَلبنا، أجْبرونَا أن نَتجِه لِلْجنوب، وَكَان هذَا مُخَططًا.
فِي اَلطرِيق وأثْنَاء عُبُور السَّيَّارات، كُنْت أَنظُر مِن النَّافذة. كَانَت السَّيَّارات تسير وسط اَلجُثث! هَذِه لَيسَت مُبَالغَة، اَلجُثث فِي كُلِّ مَكَان، مَرمِية ومكدَّسة! لَقد أَصبَحت غَزَّة مَدِينَة قَتلَى، مَدِينَة أَشبَاح بِكلِّ مَا تَحمِله كَلمَة أَشبَاح مِن مَعْنى. كَيْف قَتلُوا كُلّ هؤلاء الفلسْطينيِّين ورموْهم فِي الشَّوارع! عِنْد مُفتَرَق الشَّجاعيَّة، اَلجُثث مَرمِية وَكَأنهَا تَفتَرِش الأرْض، لَا يُوجَد فَرَاغ! نِسَاء ورجال، أَطفَال وَجثَث. الجيْش يراهم، اَلجُنود يتحرَّكون فِي الشَّوارع بيْنهم، وَكأَن هَذِه الأجْساد البشريَّة غَيْر مَوجُودة! مَدِينَة الأشْباح تِلْك مَا زَالَت فِي رَأسِي!
عِنْدمَا وصلْنَا إلى الحاجز اَلذِي يَفصِل بَيْن الشَّمَال والْجنوب تَوَقفنَا. لَقد أقاموا حاجزًا مَكَان مُسْتوْطنة نتْساريم اَلتِي أَخْلَوها قَبْل عِشْرين عامًا، كُنْت أَشعُر أنَّ رَأسِي لَيْس فِي مَكانِه فَوْق جَسدِي، أَشعُر بِدوار! مُشتَّتٌ ولَا أَستطِيع التَّرْكيز. أُفكِّر إنْ كان أَهلِي وخطيبتي مَا يزالون على قَيْد الحيَاة، أُفكِّر بِهم وأحْدق بِالْجثث المرْميَّة حوْلنَا! كُنَّا نَبكِي، - نَحْن الرِّجَال - المحْشورين فِي اَلْباص جَميعنا نَبكِي.
كَانَت السَّاعة الثَّانية عَشرَة والنِّصْف تمامًا عِنْدمَا وصلْنَا إلى ذَلِك الحاجز اَلمخِيف! لِتبْدأ رِحْلَة الانْتظار! تِسْعَة مِن كُلِّ عَشرَة مِن الخارجين مِن المشْفى كَانُوا فِي حَالَة صِحِّية خَطِرَة تُشَارِف الموْتَ، ومع ذَلِك، تَرَكونَا نَنتَظِر مِن السَّاعة الثَّانية عَشرَة والنِّصْف حَتَّى الثَّامنة لَيْلًا! ثَمانِي ساعات وَكُل تِلْك الأجْساد البشريَّة المتهالكة مَحشُورة فِي الباصات، مَمنُوع عَليهِا الحرَكة والنُّزول مِن السَّيَّارات والْباصات. بَعْض كِبَار السِّنِّ تبوَّلوا فِي مقاعدهم ولَا أَظُن أَنَّك تُريدِين سَمَاع بَقيَّة التَّفاصيل!
فِي السَّاعة الثَّامنة، أدْخلونَا سَاحَة مِساحتهَا بضعة أمتار مربعة. كَانُوا قد جَرَفوهَا وَكُنت أَتَساءَل إِن كَانَت الأجْساد البشريَّة قد جُرفَت مَعهَا! ثُمَّ جَعَلونَا مع سيَّارَات الإسْعاف نَدُور بِشَكل دَائرِي فِي السَّاحة مِثْل اِسْتعْراض عَسكَرِي! الكشَّافاتُ المضيئة مُوَجهَة عليْنَا، وَندُور وَندُور، وسيَّاراتُ الإسْعاف الأرْبع عشرة تَدُور مَعنَا والْباصانِ أيْضًا. ثُمَّ يقومون بِتفْتِيش كُلِّ سَيَّارة إِسعَاف، وَكُل تَفتِيش يَستغْرِق نِصْف سَاعَة. كَانُوا يقولون إِنَّ هُنَاك مُصابِين هَربُوا مِن مَشفَى المعْمدانيِّ وَهُم يُريدونهم، أيّ إِجرَام مِن اَلممْكِن أن تَتَخيلَه البشريَّة يَفُوق هذَا، أيّ وُحُوش هؤلاء! إِنَّهم يُلاحقون مُصابِين هَربُوا مِن مَجْزَرة! يُلاحقون ناجين مِن مَجْزَرة لِيقْتلوهم! وهل تَعرفِين! لَن أَستطِيع أن أَكمَل بَقيَّة التَّفاصيل! لَا أُريد، ولكنِّي لَن أَنسَى أبدًا ذَلِك الحاجز! حَاجِز (نِتْسرِيم)!

المساهمون