تواكب أزمة ارتفاع سعر الدولار في مقابل الليرة اللبنانية مختلف مفاصل الحياة اليومية، وتعيد ترتيب أولويات المواطنين والمقيمين وفق سعر صرف العملة الصعبة. وإحدى الإشكاليات التي تطرح نفسها اليوم عجز لبنانيين كثيرين عن شراء أجهزة سمعيّة وبصريّة من سمّاعات ونظّارات طبية وعدساتٍ لاصقة وأجهزة ملحّة لمزاولة نشاطاتهم اليومية، أو حتّى أطقم الأسنان، وكذلك تلقي العلاج من مشاكل الفم واللثّة.
هذا حال بلد تسدّ سلطته آذانها عن هموم مواطنيها وآلام مرضاها، وأصابها العمى عن أحوال الظروف المعيشية القاهرة، حتى بات لسان حال معظم الشعب "لا داعي لأن نسمع ونرى، فأصلاً لم يتركوا (أركان السلطة) لنا حتى ما نأكله".
السمع لمَن يستطيع
علي مراد، سبعيني فقد سمعه قبل 14 سنة يتّخذ من الورقة وسيلة ومن القلم رفيقاً، بعدما تعطّلت سمّاعتاه الأولى ثمّ الثانية، وكلتاهما قدمتهما له منظمة دولية قبل 6 سنوات، ما جعله مثل غيره "رهينة" الدولار، إذ يبلغ سعر السمّاعتين نحو 1040 دولارا أميركيا بحسب سعر الصرف في السوق السوداء.
تروي غادة يوسف، ابنة شقيقة علي، لـ "العربي الجديد"، كيف يمضي خالها أيامه محاولاً، بكل ما أوتي من جهدٍ، أن يسمع أحاديث أفراد عائلته ودردشاتهم معه، وتقول: "نضطرّ إلى الصراخ قرب أذنيه، وبالكاد يسمعنا. للأسف تفاقمت حالته في مطلع عام 2019، وبات يعاني من ارتفاع في الضغط وانزعاج من عدم قدرته على السمع، لكنّنا غير قادرين على تحمّل كلفة شراء السمّاعتين في ظل الواقع المتأزم وغلاء المعيشة".
وتكشف غادة أنّ "مؤسسة خيرية حاولت مساعدة خالها عبر جمع التبرعات خلال الفترة الماضية. لكن المبلغ لم يكفِ حتى لشراء سمّاعة واحدة".
في السياق ذاته، وفي حالة مشابهة لحالة علي، اضطر الشاب إيلي حسّون، وهو الآخر يعاني منذ صغره من مشاكل في السّمع، إلى السفر إلى جورجيا لشراء سمّاعتي أذن بسعر أرخص بكثير من سعرها في لبنان، بلغ 500 دولار، في حين تباع السمّاعتان من النوعية ذاتها في لبنان بسعر يتراوح بين 1800 و2000 دولار.
الرؤية مكلفة جداً
يعاني حسين (13 عاماً) منذ ولادته من ضعف شديد في النظر، يبلغ 6 درجات في إحدى العينين و9 درجات في الثانية، كما لديه احتياجات خاصة أخرى، بينها التأخّر الذهني ومشاكل في النطق. يقول والده عبدالله الحسين لـ "العربي الجديد": "دفعنا سابقاً ثمن نظارته الأولى من مدخراتنا، لكننا لا نستطيع اليوم شراء نظّارة جديدة هو بأمسّ الحاجة إليها لأنه غير قادر على المشي جيداً بسبب عجزه عن الرؤية بوضوح". يعمل الحسين ناطوراً، وتحاول زوجته مساندته عبر تنفيذ أعمال تنظيف في المدارس، علماً أن ابنهما الثاني يعاني أيضاً من إعاقاتٍ جسدية، في حين أن قدراته العقلية سليمة، وهو متفوق في المدرسة.
من جهته، يؤكد جواد مشرّفية، صاحب أحد محال النظارات الطبية والعدسات اللاصقة، أن حركة البيع تراجعت بشكل حاد منذ بدء الأزمة، وتوقفت في شكل شبه كامل مؤخراً. ويقول لـ "العربي الجديد": حاولنا الحفاظ على أسعار معقولة عبر اعتماد سعر صرف أقل من المتداول في السوق السوداء، لكن الارتفاع الجنوني للدولار يمنعنا من مواصلة هذا الأمر، فالنظارات الطبية التي يبلغ ثمنها 100 دولار مثلاً، وحددنا ثمنها بمبلغ محدد بالليرة اللبنانية، سترتفع قيمتها حكماً كلما تصاعد سعر الصرف".
ويُشير جواد إلى أن "الطلب زاد على صيانة وإصلاح النظارات القديمة، ومَن كُسرت نظارته يعجز عن شراء أخرى جديدة. من هنا نعرض أنواعاً رخيصة يكون فيها الكادر هشّ وقابل للانكسار، وسعره نحو 180 ألف ليرة لبنانية (نحو 10 دولارات بحسب سعر الصرف في السوق السوداء)، وتُضاف إليه كلفة الزجاج بحسب درجات ضعف النظر ونوعية الزجاج المستخدم".
ويتحدّث جواد عن الكلفة المرتفعة للعدسات اللاصقة، التي تناهز 10 دولارات، مشيراً إلى أنه "يجب تغييرها شهرياً لئلا تؤثّر سلباً على العين والنظر".
وفي خضم هذا النوع من الحالات الصعبة، تكشف طالبة جامعيّة طلبت عدم الكشف عن اسمها أنها تنوي التبرّع بنظارات قديمة لم تعد تحتاج إليها. وتقول لـ "العربي الجديد": "لعلّ مبادرتي المتواضعة تلهم آخرين لمساعدة مَن هم في حاجة إلى نظارات، أو أي أجهزة سمعية وبصرية".
للأسنان وجعٌ آخر
جومانة (اسم مستعار لسيدة لبنانية فضّلت عدم كشف هويتها)، تعاني منذ فترةٍ طويلة من ألم في أسنانها وصعوبة في المضغ، بعدما قلعت كل أضراسها واثنين من أسنانها. تروي لـ "العربي الجديد" أنها أجّلت علاج أسنانها وأضراسها حتى تتحسّن أحوالها المادية، ثم أخبرها أحدهم عن أن الكلفة معقولة في عيادات كلية طب الأسنان في الجامعة اللبنانية، سواء على صعيد علاج وترميم الأسنان المكسورة أو تركيب الجسور. لكن عيادات الكلية أغلقت أبوابها مع انتشار فيروس كورونا، ولا يسمح الوضع المادي لجومانة بزيارة طبيب أسنان يحتسب السعر وفق الدولار.
تعتبر جومانة، وهي ربّة المنزل، أن "الأولوية اليوم هي لتأمين الطعام والشراب وسبل عيش العائلة. زوجي سائق تاكسي لم يعمل طوال أشهرٍ بسبب الإقفال العام وحظر التجوّل، فكيف أستطيع أن أفكر بعلاج أسناني، ومن أين سأدفع التكاليف؟".
وتختم بالقول: "ليس لدينا إلا الأمل والانتظار، فجارنا مثلاً انكسر طقم أسنانه منذ أشهر ولا يزال يأكل بصعوبة على لثّته".
في السياق، يقول الجرّاح في طب الأسنان أندريه الدبس، لـ "العربي الجديد": "تقصدنا اليوم الحالات الطارئة فقط أو مرضى يملكون عملة صعبة. وفي حين يُحاسب بعض الأطباء مرضاهم وفق سعر الصرف في السوق السوداء. حاولت الحفاظ على أسعارٍ مقبولة منذ بداية الأزمة، لكنني اضطررتُ لاعتماد سعر أعلى لاحقاً لأننا نشتري الأدوية والأجهزة الطبية بالدولار، والتجار لا يرحمون ولا يسمحون لنا بالتقسيط كما في السابق".
ويلفت الدبس إلى أن "عمليات زرع الأسنان أو تجميلها وتنظيفها، يجري تأجيلها حالياً. وبدلاً من زرع الأسنان يطلب المريض تركيب طقم أسنان متحرك، في حين أن الخطورة تتمثل في استخدام البعض مواد زهيدة الثمن تتسبب في تأثيرات صحية سلبية".