المعروف عن الأمم والشعوب أنها عندما تتلقى هزائم وتعاني الخسارات تبدأ من حيث يجب أن تبدأ، أي من التعليم. هذا ما فعلته ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى والمعاهدات المُذلة التي أُجبرت على توقيعها مع أعدائها. وبدلاً من أن نشير إلى حادثة وقعت قبل أكثر من مائة عام نعود إلى مرحلة أقرب، فعند تفوق الاتحاد السوفييتي في الستينيات على الولايات المتحدة الأميركية في غزو الفضاء أعلنت وزارة التعليم الأميركية عن إحداث انقلاب في تدريس علوم الرياضيات والفيزياء وغيرها، ما مهد للنزول على سطح القمر. وبعدها شهدت الجامعات والمعاهد ما يشبه الانتفاضة التعليمية التي شملت مختلف حقول التدريس.
أكثر من ذلك مع بناء الاتحاد السوفييتي المحطة الفضائية "مير" شعر القادة الأميركيون بالخطر الداهم الذي يمثله هذا التفوق على موقعهم الدولي في ارتياد الفضاء، وبالتالي قيادة العالم ومخاطر إمكانية خسارته بفعل النقلة المتقدمة التي قام بها السوفييت. في ذلك الحين صدر كتاب شهير تحت عنوان "أمة في خطر" كان بمثابة صرخة مدوية، أظهرت مدى ما يستشعره صناع القرار الأميركيون من ارتفاع منسوب الخطر الذي يتهدد بلادهم. الكتاب يربط بين تراجع الموقع الأميركي وتدني نوعية التعليم في الولايات المتحدة، ومما جاء فيه: "...إنه لأول مرة في مسيرة التعليم العام بأميركا سيتخرج جيل لا يتفوق على آبائه، بل حتى لا يساويهم أو يدانيهم في المهارات والمعارف والقدرات...". وورد أيضاً: "لو كان التعليم بحالته في بداية الثمانينيات بأميركا مفروضاً عليها من قوى خارجية، لكان الأميركيون نظروا إليه باعتباره عملاً حربياً ضدهم، ولكن ما حدث أنهم سمحوا بأن يفعلوا ذلك بأنفسهم...!!".
لا يمكن المقارنة بين الأحداث التي أشرنا إليها وبين ما عانته الأمة العربية من هزائم وكوارث ومصائب فاجعة منذ أربعينيات القرن الماضي، مع ذلك أقصى ما جاد به " القادة الملهمون العظماء" من أصحاب السلطة لا يعدو أن يكون إعادة بناء القوات المسلحة، وزعم العمل على تحقيق التوازن العسكري مع اسرائيل. أي أن المنطقة العربية ردت على التفوق الإسرائيلي وعجزها بوهم إعادة بناء القوى العسكرية، وتعويض الأسلحة التي فقدتها في الحروب، وإزالة آثار العدوان وما شابه. وبصرف النظر عن تقييم النجاح أو الفشل لهذه الخطوات التي فشلت بالتأكيد، بدليل الحال التي عليها هذه الدول والجيوش وما أصبحت عليه القضية الفلسطينية وعمليات التطبيع والعلاقات المتبادلة مع العدو... رغم كل ذلك لم تتوقف دولة عربية واحدة ربطاً بالتحديات المتنوعة لإعادة النظر بنظامها التعليمي الذي يمكن الجزم أنه أحد أسباب مسلسل الهزائم المتلاحقة، والعجز عن مواجهة التحديات على مختلف الصعد. وآخرها تحدي كورونا ومتحوراته... بالطبع يرتبط الالتفات إلى النظام التعليمي من جانب الدول التي تتوجه نحوه لسد الثغرات التي قادت إلى خساراتها. أو من أجل تحقيق طموحها بكسر دائرة التخلف التي تخنق طاقاتها.
أكثر من ذلك أحدثت الدول التي نهضت من التخلف الذي كانت تعانيه، وللمناسبة كانت أوضاعها أشد سوءاً وتراجعاً مما هي عليه معظم الدول العربية، من خلال ثورة في التعليم نقلتها من حال إلى حال، وفتحت أمامها أبواب التطور العلمي والتقني والاقتصادي والاجتماعي. وينطبق مثل هذا الأمر على الصين واليابان ودول النمور الآسيوية وفيتنام وكوريا وغيرها. أي أن النظام التعليمي هو أبرز مفتاح يتوجب استعماله لفتح الأبواب المغلقة، رداً على الانتكاسات والتحديات المتعاظمة على الشعوب والدول.
(باحث وأكاديمي)