يصادف الأحد في 19 الشهر الجاري، ذكرى مرور 550 عاماً على ميلاد عالم الفلك الألماني البولندي نيكولاس كوبرنيكوس أو ميكواي كوبرنيك، كما ينطق اسمه باللغة البولندية، الذي أحدث ثورة في علم الفلك بتفنيده نظرية العلماء اليونانيين القدماء بأن الأرض هي مركز الكون والشمس والكواكب تدور حولها، مؤسساً لنظرية مركزية الشمس. ومن المثير للدهشة أن كوبرنيكوس (1473 - 1543) تمكن من الوصول إلى هذا الاستنتاج الثوري، والذي يبدو بديهياً اليوم، في زمن لم تتوفر فيه حتى أبسط أجهزة التليسكوب، إلا أنه وضع قاعدة علم الفلك الحديث.
أكبر اكتشاف فلكي
يصف الكاتب والصحافي العلمي الروسي أنطون بيرفوشين، كوبرنيكوس بأنه صاحب أهم اكتشاف في تاريخ علم الفلك، وقد اعتقد علماء على مدى أكثر من ألف عام من الزمن أن الأرض هي مركز الكون. ويقول بيرفوشين لـ "العربي الجديد": "لا شك أن كوبرنيكوس له الفضل في أكبر اكتشاف في تاريخ علم الفلك، بعدما ظل يتطور على مدى ألف سنة كاملة قبله على قاعدة مزاعم أرسطو وبطليموس ونصوص الكتاب المقدس، ومفادها بأن الأرض هي مركز الكون". ويشير إلى أنه "لم يكن من السهل في ذلك الزمن إثبات ما هو عكس ذلك تماماً، كما قد يبدو الأمر عليه اليوم، إذ إن أرسطو كان يعتبر أنه في حال كان القمر كياناً مثل الأرض، لكانت القطع الساقطة تنجذب إليه. وبالتالي، الأرض هي مركز الكون الذي تسقط عليه القطع كافة".
وحول كيفية وصول كوبرنيكوس إلى نقض رواية من سبقه من العلماء، يضيف: "لاحظ كوبرنيكوس أن صورة العالم السائدة في ذلك الوقت لا تقدم تفسيراً للحركة الدورية إلى الخلف للكواكب، وفي مقدمتها المريخ، في السماء. لكن في حال كان وضع الشمس في وسط الحركة، يمكن تفسير هذه الظاهرة بأن الكواكب تتحرك بسرعات مختلفة على مداراتها، متقدمة تارة ومتأخرة تارة أخرى". ويلفت بيرفوشين إلى أن نظرية كوبرنيكوس بدت واضحة إلى حد أنها نالت اعترافاً سريعاً، رغم مقاومة الكنيسة الكاثوليكية، بينما قبل البروتستانت بمركزية الشمس بسهولة. مع ذلك، لم تخل نظرية كوبرنيكوس من قصور، إذ خرج باستنتاج خاطئ مفاده بأن النجوم النائية التي يمكن رؤيتها من الأرض مثبتة في غلاف يحيط بكوكبنا، وظل متمسكاً بهذا الاعتقاد حتى نهاية حياته. وبعد وفاة كوبرنيكوس بعقود عدة، تمكن عالم الفلك الألماني يوهانس كيبلر، من تدقيق بعض تفاصيل نظرية العالم البولندي التي تمسك فيها بآراء العلماء اليونانيين القدماء، ولعل لهذا أطلق اسم كيبلر على المرصد المداري التابع لوكالة الفضاء الأميركية "ناسا"، والمخصص لرصد الكواكب خارج المنظومة الشمسية.
مسيرة علمية حافلة
وُلد كوبرنيكوس في مدينة تورون التي كانت ألمانية حينها في 19 فبراير/ شباط 1473. في ذلك الوقت، كانت الحدود بين بروسيا (دولة ألمانية وسط وشرق أوروبا استمر وجودها حتى القرن الـ 20) وبولندا غير مستقرة، بل كانت تتغير كثيراً، شأنها في ذلك شأن أسماء المدن، ولكن تورون تقع في بولندا اليوم. نشأ كوبرنيكوس وأشقاؤه في أسرة مختلطة ميسورة الحال، إذ كان والده تاجراً متحدراً من مدينة كراكوف البولندية، بينما كانت والدته ألمانية. ولكنهم تيتموا مبكراً بعد قضاء والدهم من جراء اندلاع وباء الطاعون، فيما توفيت والدتهم بعد ذلك بسبع سنوات. وبعد التخرج في المدرسة، توجه الإخوة كوبرنيكوس إلى كراكوف للالتحاق بكلية الفنون في جامعة ياغيلونيا، ثم إلى جامعة بولونيا الإيطالية، حيث تعرف نيكولاس إلى أستاذ الفلك دومينيكو ماريا نوفارا دا فيرارا، وبدآ متابعات فلكية في عام 1497، وشكك كوبرنيكوس على إثرها في نظرية بطليموس الزاعمة أن الأجسام السماوية كافة تدور حول الأرض.
وبعد عودته إلى بولندا، واصل كوبرنيكوس بحوثه العلمية، ولكن أعماله، وأهمها "حول دوران الأغلفة السماوية" لم تصدر سوى في السنوات الأخيرة من عمره أو بعد وفاته في عام 1543، مما جنبه الاضطهاد والملاحقة من قبل رجال الكنيسة، على عكس أنصاره وخلفائه أمثال غاليليو غاليلي الذي قضى السنوات الأخيرة من عمره في المنفى، وجوردانو برونو الذي أُحرق حياً في ساحة الزهور في روما، دافعين ثمن آرائهما الراديكالية، بمقاييس ذلك العصر.
ورغم مرور خمسة قرون على وفاته، لا يزال اسم كوبرنيكوس مرتبطاً في أذهان البولنديين بمدينة كراكوف، بينما يقصد سياح قادمون إلى المدينة جامعة ياغيلونيا التي درس بها مؤسس علم الفلك بمفهومه الحديث.