الرهان على "الحمير"
منذ أشارت عليّ جدتي أن أقذف سنّي اللبنية إلى الأعلى في طفولتي، وأن أهتف بتلك العبارة الخالدة: "يا عين الشمس، خذي سن الحمار، واعطيني سن الغزال".. منذ ذلك الوقت، لم أغير تلك العادة في حياتي، حتى عندما كبرت، وبدأت "أسنان الغزال" تتساقط من لثتي المنخورة، داومتُ على قذف سني إلى الأعلى، مع تحوير طفيف على الهتاف، قوامه "يا عين الشمس، خذي سن الغزال واعطيني سن الديناصور"، على قاعدة أنني موشك على الانقراض.
كنت مؤمناً دائماً، حتى قبل اختراع فكرة "التدوير" البيئية، أن "عين الشمس" قادرة على تعويضنا عما فقدناه، وعلى هذا الأساس، كنت أعتبر أن ترك أي أثر على "مقتنياتي" الثمينة كفيل بإعادته لي، مهما طال الزمن.
من هنا، استهوتني فكرة التوقيع على الأوراق النقدية، على سبيل التفاؤل، أو كتابة اسمي عليها، أملاً باستعادتها مرة أخرى، إن لم يكن بأكثر من قيمتها، فبالقيمة نفسها، على الأقل، مع ترداد الهتاف الخالد: "يا عين الشمس، خذي دينار الحمار، واعطيني دينار الملك".. علماً أنني لم أكن صاحب شرف اختراع هذه الفكرة، فكثيرون سبقوني إليها، وكم كنت أشعر بالغبطة، وأنا أرى تواقيع وأسماءً، بل وعبارات "رجاء" على أوراق مالية، من أناس يراهنون على عودتها إلى جيوبهم، المشرعة على الخواء.
كما استبدّت بي فكرة مجنونة، حول "التدوير العاطفي"، فكنت أجازف بالتوقيع على أيدي النساء اللواتي أحببت، أملاً باستعادة ولو واحدة منهن، على الأقل، حين يجف ربيع العمر وتضعف شحنات القلب.
غير أن "الغزال" في جميع تلك الحالات لم يأت، بل بقي "الحمار" ماثلاً أمامي، بكل نهيقه "العذب"، فلا سن الغزال عادت، ولا "دينار الحمار" فكّر بالرجوع إلى الجيب، ولا الحبيبة أثار فيها توقيعي المحفور على يدها أي حنينٍ لحمار بعيد.
وكنت في سرّي أعتب على جدتي التي زرعت في رأسي هذا الوهم الخادع، خصوصاً حين يرتفع منسوب "الطفر" والخواء المعيشي والعاطفي في حياتي، فأتمنى، حينها، لو أنها تركتني أتعايش مع "أسنان الحمير" التي سترافقني طوال أيامي المقبلة.
حتى الآن، تحاشيت الحديث عن "التدوير السياسي" الذي يبدو أنه الوحيد الذي نجح في حياتنا العربية، لأنني لم أكن معنياً به ألبتّة، لكني كثيراً ما تساءلت عن سر نجاحه، خصوصاً حين أرى وجوه الساسة العرب تتكرر، كحبات العدس، في كل مرحلة زمنية من حياتنا السياسية البائسة.
وبلغ الأمر بي حدّ الجزم بأن هناك من يقذف كلّ من ينقرض من ساستنا وزعمائنا إلى الأعلى ويهتف: "يا عين الشمس خذي الحمار وأعطينا الحمار"، لولا أنني أعرف جيداً مبلغ "القرف" الشعبي العربي من هؤلاء الساسة المخلّدين على الرقاب.
وكنت واثقاً أن "دمغة" الأقدام التي كان يحفرها شباب "الربيع العربي" على مؤخرات زعمائهم، وهم يركلونهم إلى خارج التاريخ، لم تكن بهدف استعادتهم، مهما كان الثمن، بل للتأكد من أن هؤلاء الزعماء لن يجرؤوا على العودة إلى التاريخ الجديد الذي يصنعه هؤلاء الشباب الغاضبون، غير أن "التدوير" أبى إلا أن يفعل فعلته، هذه المرة، لنكتشف أن أولئك "الحمير" بدأوا يعودون مجدداً، بملامح لا تحمل سمة "الغزلان"؛ بل بأوجه أكثر قبحاً وأشد مرارةً من "حنظل" القمع والاستبداد اللذين عرفَتهما هذه الأمة طوال العقود السابقة.
زعماء خلعوا أكفان "المومياءات" عن أجسادهم البالية، وعادوا كلعنات الفراعنة، ليتسلطوا من جديد، وكأن الربيع العربي ما كان إلا هتافاً مقيتاً لشعوب مخلّعة الأسنان، تنادي بعودة "الديناصورات" ثانية، أو بسقوط "الحمير" من "عين الشمس" العمياء.
سامح الله جدتي، جعلتني أتورط برهانات خاسرة، لم يتمخض كل شوط منها إلا عن "حمار" جديد.