جدلية العملاق والقزم

17 يناير 2017
+ الخط -
أحبّ الشماتة بالطغاة. هذا أولاً، وأحب أن أراهم في موقع الذلة، ثانيًا. أما المناسبة، فتتمثل بمضيّ أشهر على محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، وقد كنت أودّ حينها أن أقول إن خسارتي الشخصية كانت فادحةً بفشل هذا الانقلاب؛ لأنني كنت أمنّي النفس بنجاحه، ولو ليومين على الأقل، لأعرف الحقائب الوزارية التي كانت ستوزع على قادة الانقلاب، غير أن فشل الانقلابيين في مهده فوّت عليّ هذه الفرصة الثمينة.
مؤكّدٌ أن قائمة المناصب كانت معدّة سلفاً، وتمخضت عن سلسلة اجتماعات، ومشاورات مضنية، بين رموز الانقلابيين، وما كان إلا أن يهرع كل وزير إلى وزارته، ما إن يستتبّ نجاح الانقلاب.
وحدهم الآن، المحققون الأتراك يعرفون توزيعة الحقائب الوزارية المفترضة، في أثناء تحقيقهم مع رموز الانقلاب. وبالطبع، لا بد أن يتسرب خبر الحقائب إلى حرس السجون البسطاء الذين يقتادون الوزراء المقترحين من غرف التحقيق إلى الزنازين، وبالعكس.
ولأن هؤلاء العسكر لا يتقنون حفظ الأسماء كثيرًا، فأتخيّل أنهم سينادون على الشخص المعنيّ بالاستجواب بمنصبه المقترح، لا باسمه، كأن يقال: "معالي وزير الخارجية، استعد للسفر إلى غرفة التحقيق".. "معالي وزير التربية والتعليم، تهيأ لأخذ حصة في فنون الفلقة".. "معالي وزير المياه، عجّل بتنظيف دورة المياه".. وهكذا.
والحال أن الفرصة ستكون مواتيةً لهؤلاء الحرّاس البسطاء، لفك عقدة "معالي" و"فخامة" و"سعادة"، و"بيك"، هم الذين أدمنوا هذه الألقاب، حتى في حياتهم اليومية، فأصبحت لازمةً في مخاطباتهم مع الآخرين خارج الدوام الوظيفي. وفي مثل هذه الحالة، يفقد اللقب محتواه من الرعب، لأنه كان مرتبطاً في أذهان البسطاء بالاستبداد والقمع.
وللألقاب الرسمية في العالم الثالث دلالاتها العميقة كجزء من المنظومة الاستبدادية المهيمنة، على عكس نظائرها في العالم الديمقراطي، فهي لا تكرّس فكرة احترام الآخر، بقدر ما تعزّز ثنائية التضخيم والتقزيم؛ تضخيم الجلاد المخاطَب، وتقزيم الضحية صاحبة خطاب التفخيم.
شتّان ما بين "سيدي" و"سيدي"، حين تقال الكلمة نفسها في مكانين على طرفي نقيض حضاريًا وفكريّاً، ففي البلاد التي تحترم ثقافة حقوق الإنسان يكون التفخيم معزّزا لحقّ الإنسان في الاحترام والتبجيل والقداسة، وتكون واجبةً على طرفي معادلة الحاكم والمحكوم، السلطة والشعب، بل ترجّح الكفة للمواطن "السيد"، لا للحاكم "الخادم". والويل كل الويل إن حدث العكس، فستقوم قائمة عالمهم وإعلامهم ومجتمعهم، ولن تقعد، استهجانًا واستنكارًا، وقد يذهب ضحية هذه الخطيئة مسؤولون برتبٍ رفيعة، يلقى بعضهم في حاويات القمامة، أو يعلقون على أعمدة الكهرباء، لأنهم تجرّأوا على انتهاك حق يسير من حقوق المواطن.
أما على طرف العالم الآخر، الغارق في ثقافة البؤس الحضاري، فتأخذ عبارات التفخيم معنى تقديس السلطة بكل رموزها، وتكون واجبًا على طرفٍ واحد، فقط، هو الشعب الذي عليه أن يؤمن إيمانًا راسخًا بحقوق السلطة، لا الإنسان، وأحقيّتها بالقمع والقهر والقيادة والاستفراد والحرية في اقتراف ما تشاء من قراراتٍ ومصائر، خارج أفلاك الرقابة كلها، دستوريةً كانت أم برلمانية أم شعبية، فيما يزداد تشبث المواطن بعبارات التفخيم، لأسبابٍ شتى، منها أنها يجد فيها منجاةً من بطش السلطة، وأيضًا لأنها تغدو وسائل للتقرّب منها، والحظوة بفتاتها أحيانًا.
على هذا، لم يكن غريبًا أن امتهنت فئةٌ، في عالمنا العربي، مهنة "كاتب الاستدعاءات" الذي يكون حلقة وصلٍ بين الشعب والسلطة، لا لشيء سوى لبراعته في تدبيج عبارات التفخيم، وابتكار الجديد منها، كترويساتٍ لازمةٍ في مقدمة المعاملات الرسمية.
أذكر أن صديقًا صحافيًّا كان يحاول صياغة مادة إعلامية عن ميلاد الرئيس، وكان يبحث عن أكثر العبارات تفخيمًا وتقديسًا ليحشو مقالته بها، وبعد أن انتهى سألني: "ما رأيك ألم أجعل من الرئيس عملاقًا؟".
أجبته على الفور: نعم.. لكنك أصبحت قزماً.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.