28 يناير 2024
مقبرة الغرباء
لا شماتة في الموت. هذا صحيح، غير أن الموت ليس مبرّرًا كافيًا للغفران، وإلا لدخل الموتى برمتهم الجنة... من هذا القبيل، ليس في وسعي أن أغفر حتى اليوم للشاعر محمد مهدي الجواهري مدائحه ومعلقاته في طاغية سورية الأول، حافظ الأسد، خصوصًا حين قال:
سلامًا أيها الأسد/ سلمت وتسلم البلد
وتسلم أمة فخرت/ بأنك فخر من تلد
والحال أنني حتى اليوم لم أفهم الدوافع الحقيقية وراء هجرة الجواهري من وطنه العراق، ولجوئه إلى سورية، ما دام أنه كان على استعدادٍ لتدبيج هذه المدائح الرخيصة على بلاط الطغاة، فلماذا لم يكفِ نفسه عناء المنافي، ويمدح طغاة بلده، على قاعدة "الأقربون أولى بالمديح"؟ هل كان السبب اختلافًا أيديولوجيًّا، مثلًا، بين طاغية وآخر، أم هو بحثٌ عن "شهرةٍ" كان في وسع الجواهري أن يحققها في بلده، بفضل شاعريته الفذّة التي لا يختلف عليها اثنان؟ أم لأن طغاة المنافي على استعدادٍ لدفع ثمنٍ مضاعف لقاء شراء قرائح مثل هؤلاء الشعراء، خصوصًا إذا تحدّروا من بلاد "الخصوم"، فيضربون أزيد من عصفور بدينار واحد: إسباغ الشرعية على أنفسهم بوصفهم "ملاذًا آمنًا" للمثقفين العرب من جهة، وبجعل هؤلاء المثقفين مدافع هجاءٍ على خطوط التماس الأولى ضد خصومهم من الطغاة الآخرين من جهة أخرى؟
صحيحٌ أن ظاهرة "تداول المثقفين" العرب لا تقتصر على الجواهري وحده، غير أنه أنموذج؛ لأنه الأوضح دليلًا على ظاهرةٍ عربيةٍ مخجلةٍ تنسف المقولة المبهمة التي كنّا نردّدها كالببغاوات، بفضل هذه الزمرة من المثقفين: "لا كرامة لمثقف في وطنه"، والتي تذرّع بها هؤلاء طويلًا، ليس بحثًا عن كرامة، بل عن أكياس نقودٍ لوّثت قصائدهم وأقلامهم، وجعلتنا نرفض مقولة فصل حياة الكاتب عن إبداعه. كما يتفاقم حجم الجريمة، حين تنخدع شرائح شعبية لا يُستهان بها بمدائح هؤلاء الكسبة من الشعراء والكتاب، فيؤمنون بأن طغاتهم على حق، حتى بطغيانهم ومذابحهم التي يقترفونها، ما دام ثمّة شاعر كبير، كالجواهري، جعلهم في أعلى مراتب فخر الأمة وما ولدت، مثلما يمنحون دافعًا مجانيًّا للطغاة أنفسهم نحو مزيدٍ من الاستبداد والفتك، ما داموا يحظون بمدائح تعظّم هراواتهم وسياطهم وزنازينهم.
ربما آن الأوان، اليوم، أن نعيد النظر بالدور المشبوه الذي لعبه مثقفون عرب كبار في توطيد أركان الاستبداد في أوطاننا العربية، ولتجديد دراسة إشكالية "المثقف والسلطة" ذاتها، فلم أقع فعليًّا على أية "إشكالية" من تلك الإشكاليات التي تحدث عنها نقادنا طويلًا، وأشبعوها بحثًا وتمحيصًا؛ لأن الإشكاليات لا تنشأ إلا من رحم التضادّ واختلاف الأفكار والأيديولوجيات، لا من المدائح والبصم على كل ما يقوله أو يراه الحكام، وتسويغ كبائرهم وخطاياهم، وقلبها إلى "إنجازات" ومآثر.
عمومًا، تساوى المادح بالممدوح الآن في القبر، أعني الجواهري والأسد، ولا أدري إن كانت المدائح لم تزل تجمعهما معًا في العالم الآخر أم لا، بعد أن كانت قد وحّدتهما القصيدة والسوط في العالم الذي لم يكن "أولًا" على الإطلاق، إلى الحد الذي تماهت فيه الحدود بين قصيدةٍ شاطرت السوط مهمة جلد الحرية، وسوط شارك القصيدة في كتابة مأساة هذه الأمة المبتلاة باستبداد مزدوج، قوامه المثقف والسلطة معًا، غير أن ما أعرفه أن المادح لم يحظ بقبر "منيف" كقبر الممدوح، كما كان يتوقّع لخاتمة حياته الحافلة بالمدائح، فقد ووري الثرى في مقبرة مزويّة في دمشق تدعى مقبرة الغرباء. ولعلها أبلغ خاتمة لشاعر ظنّ أن مدائحه بالحكام والسلاطين كفيلة بتبديد غربته، وجعله في مقدمة من تحقّ لهم المواطنة والاحتفاء حتى بقبره. أمّا الأهم، فهو أن غربة الجواهري وسواه من المدّاحين لن تقتصر على المنافي وحسب، بل ستشمل أوطانهم أيضًا، وكذلك الشعوب العربية التي باتت تساوي بين مثقفين بينهم والسلطة، خصوصًا إذا كان المثقف على شاكلة الجواهري وأضرابه.
وتسلم أمة فخرت/ بأنك فخر من تلد
والحال أنني حتى اليوم لم أفهم الدوافع الحقيقية وراء هجرة الجواهري من وطنه العراق، ولجوئه إلى سورية، ما دام أنه كان على استعدادٍ لتدبيج هذه المدائح الرخيصة على بلاط الطغاة، فلماذا لم يكفِ نفسه عناء المنافي، ويمدح طغاة بلده، على قاعدة "الأقربون أولى بالمديح"؟ هل كان السبب اختلافًا أيديولوجيًّا، مثلًا، بين طاغية وآخر، أم هو بحثٌ عن "شهرةٍ" كان في وسع الجواهري أن يحققها في بلده، بفضل شاعريته الفذّة التي لا يختلف عليها اثنان؟ أم لأن طغاة المنافي على استعدادٍ لدفع ثمنٍ مضاعف لقاء شراء قرائح مثل هؤلاء الشعراء، خصوصًا إذا تحدّروا من بلاد "الخصوم"، فيضربون أزيد من عصفور بدينار واحد: إسباغ الشرعية على أنفسهم بوصفهم "ملاذًا آمنًا" للمثقفين العرب من جهة، وبجعل هؤلاء المثقفين مدافع هجاءٍ على خطوط التماس الأولى ضد خصومهم من الطغاة الآخرين من جهة أخرى؟
صحيحٌ أن ظاهرة "تداول المثقفين" العرب لا تقتصر على الجواهري وحده، غير أنه أنموذج؛ لأنه الأوضح دليلًا على ظاهرةٍ عربيةٍ مخجلةٍ تنسف المقولة المبهمة التي كنّا نردّدها كالببغاوات، بفضل هذه الزمرة من المثقفين: "لا كرامة لمثقف في وطنه"، والتي تذرّع بها هؤلاء طويلًا، ليس بحثًا عن كرامة، بل عن أكياس نقودٍ لوّثت قصائدهم وأقلامهم، وجعلتنا نرفض مقولة فصل حياة الكاتب عن إبداعه. كما يتفاقم حجم الجريمة، حين تنخدع شرائح شعبية لا يُستهان بها بمدائح هؤلاء الكسبة من الشعراء والكتاب، فيؤمنون بأن طغاتهم على حق، حتى بطغيانهم ومذابحهم التي يقترفونها، ما دام ثمّة شاعر كبير، كالجواهري، جعلهم في أعلى مراتب فخر الأمة وما ولدت، مثلما يمنحون دافعًا مجانيًّا للطغاة أنفسهم نحو مزيدٍ من الاستبداد والفتك، ما داموا يحظون بمدائح تعظّم هراواتهم وسياطهم وزنازينهم.
ربما آن الأوان، اليوم، أن نعيد النظر بالدور المشبوه الذي لعبه مثقفون عرب كبار في توطيد أركان الاستبداد في أوطاننا العربية، ولتجديد دراسة إشكالية "المثقف والسلطة" ذاتها، فلم أقع فعليًّا على أية "إشكالية" من تلك الإشكاليات التي تحدث عنها نقادنا طويلًا، وأشبعوها بحثًا وتمحيصًا؛ لأن الإشكاليات لا تنشأ إلا من رحم التضادّ واختلاف الأفكار والأيديولوجيات، لا من المدائح والبصم على كل ما يقوله أو يراه الحكام، وتسويغ كبائرهم وخطاياهم، وقلبها إلى "إنجازات" ومآثر.
عمومًا، تساوى المادح بالممدوح الآن في القبر، أعني الجواهري والأسد، ولا أدري إن كانت المدائح لم تزل تجمعهما معًا في العالم الآخر أم لا، بعد أن كانت قد وحّدتهما القصيدة والسوط في العالم الذي لم يكن "أولًا" على الإطلاق، إلى الحد الذي تماهت فيه الحدود بين قصيدةٍ شاطرت السوط مهمة جلد الحرية، وسوط شارك القصيدة في كتابة مأساة هذه الأمة المبتلاة باستبداد مزدوج، قوامه المثقف والسلطة معًا، غير أن ما أعرفه أن المادح لم يحظ بقبر "منيف" كقبر الممدوح، كما كان يتوقّع لخاتمة حياته الحافلة بالمدائح، فقد ووري الثرى في مقبرة مزويّة في دمشق تدعى مقبرة الغرباء. ولعلها أبلغ خاتمة لشاعر ظنّ أن مدائحه بالحكام والسلاطين كفيلة بتبديد غربته، وجعله في مقدمة من تحقّ لهم المواطنة والاحتفاء حتى بقبره. أمّا الأهم، فهو أن غربة الجواهري وسواه من المدّاحين لن تقتصر على المنافي وحسب، بل ستشمل أوطانهم أيضًا، وكذلك الشعوب العربية التي باتت تساوي بين مثقفين بينهم والسلطة، خصوصًا إذا كان المثقف على شاكلة الجواهري وأضرابه.