كان يوماً غريباً منذ بدايته. يوم الجمعة هنا في تركيا بداية "الويك إند"، ينزل الناس للتسوق والنزهات، وتتركز في بعض الشوارع، كشارع الاستقلال، حركة بشرية كثيفة.
غادرت منزلي القريب من المطار بناءً على دعوة من صديقتي إلى شارع الاستقلال وسط إسطنبول. الطريق إلى هناك يحتاج أكثر من وسيلة نقل ويستغرق عادة ساعة كاملة.
في المواقف والمحطات لاحظت وجوداً كثيفاً لقوى الأمن، لم أستغرب الأمر؛ فمنذ فترة وإسطنبول تعيش حالة قلق على وقع التفجيرات المتكررة التي استهدفتها.
أنهينا الغداء وقصدنا شارع الاستقلال للتسوق. كنا نتمشى ببطءٍ، وإذ بمجموعة كبيرة من الناس، حوالي مائتين، يهرعون باتجاهنا، قادمين من ساحة أتاتورك حيث النصب العسكري الشهير في وسط تقسيم. توقف قلبي للحظة ثم تابع الطرق. العيون مفتوحة على أقصى اتساع لها والأفواه أيضاً.
دون تفكير استدرنا أنا وصديقتي 180 درجة وركضنا مع الراكضين، ثم انعطفنا يميناً إلى إحدى الحارات الفرعية. هناك دلفنا إلى بار كان يحاول إغلاق بابه. ما إن دخلنا حتى أغلِق خلفنا. احتشدنا مع مجموعة من الناس في فسحة صغيرة. بدأت صديقتي بالبكاء، فحاولت أن أشد من عزيمتها فقلت لها بما معناه أن لا سبب ليخاف السوري من حدث كهذا، فقد حضرَ مشاهد أكثر رعباً وخطورة.
رفعت عينيها وهي تشير إلى امرأة عراقية خمسينية تضم ابنتها الشابة وتبكيان، لم أحتمل مشاهدَ الارتعادِ التي تفوق مستوى الحدث بكثير، فشددت ذراع صديقتي وخرجنا نبحث عن سيارة أجرة لنخرج من هذا التوتر.
بدأ الغضب يتسلسل إلى نفسي بسبب إغلاق جميع شوارع المنطقة، ثم ما لبثتُ أن قهقهتُ بصوت عال عندما أسرَّت لي صديقتي بأن بكاءها كان بسبب فقدان قبعتها الجديدة التي سقطت أثناء ركضنا. جلسنا على حافة رصيف ننتظر أية سيارة، وأصوات الاشتباكات بين الجيش والأمن تصل إلى سمعنا بوضوح، جاء من خلفنا شخص يرتدي ملابس تشبه ما يرتديه رجال الأمن، دعانا بإنكليزية ركيكة لأن ندخل إلى فندق مضاء خلفنا، ونستريح الليلة. الدعوة لم تكن مجانية، وقال لنا موظف الاستقبال إن الليلة بخمسمائة ليرة تركية أي ما يعادل 180 دولاراً، رفضنا العرض بشجاعة وعدنا إلى رصيفنا.
وقفتْ سيارة أجرة تحمل راكباً، فتحنا الباب ودخلنا، طلبنا منه أن يوصلنا إلى بيت صديقتي في منطقة شيشلي غير البعيدة، وافق بتحدٍ غريب لكنه طلب أجرة مسبقة عالية، قبلنا ونحن نزدرد لعابنا بسبب صوت انفجار قطع الكلام.
وصلنا خلال دقائق إلى منزلها. المفارقة أننا كنا في الشارع أثناء الانقلاب، وصرنا في البيت عند دعوة الرئيس رجب طيب أردوغان الناسَ للخروج إلى الشارع لكسر حظر التجول الذي فرضته مجموعات الجيش المسؤولة عن الانقلاب. شاهدنا من شباك المنزل أفواج الناس تتجه مشياً إلى ميدان تقسيم.
بحثت حتى وقت متأخر في المواقع والقنوات لأستجلي ما سيحل بتركيا، البلد الوحيد الذي يحتوينا نحن السوريين. سلّمت رأسي لوسادة خشنة على الأريكة. أيقظتني الحرارة العالية بعد ساعتين فمنزل صديقتي لا مكيف هواء فيه ولا حتى مروحة.
نزلتُ إلى الشارع عند حوالي التاسعة والنصف صباحاً. كانت حركة الناس قليلة جداً. مع ذلك، وجدت مكاناً أتناول فيه كعكاً تركياً، قصدتُ بعده الميترو وكان مقفراً. استغليت المشهد الاستثنائي والتقطتُ لنفسي صورةً وأنا وحيدةٌ في مكان يندر أن يفرغ من الزحمة. ركبتُ الميترو الذي جاء دون تأخير، وجدت داخله ثلاثة أشخاص فقط.
قطعتُ طريق المطار وأنا أمط رأسي بحثاً عن جندي هارب، أو دبابة فارغة، لكنْ دون جدوى، لم أشاهد إلا الفراغ. وصلت إلى بيتي بهدوء قلِق، لم أشأ تعويض ساعات النوم المفقودة، وضعتُ صورتي في الميترو الفارغ على "فيسبوك"، وتابعتُ الرسائل التي هنأتني بالسلامة وأنا أحتسي فنجان قهوتي المعتاد.