نلاحظ.. ونرصد.. ونستغرب

29 اغسطس 2019
+ الخط -
لماذا لم نعد نسمع بتيارات شعرية أو قصصية أو روائية، كما كنا نفعل في الماضي؟ لماذا اختفت ظاهرة المدارس الأدبية من دون حركات أو ثورات فردية كبرى في الإبداع خلال العقدين الأخيرين في خريطة الأدب العربي؟ إلى أين يمكن أن تذهب بنا فوضى الإبداع الفردي، إن لم يكن إلى سماء الذاتية المحلّقة في الكتابة كما يفترض؟
تحدثت في المقالة السابقة الأسبوع الماضي، "جيل ورث انكفاءه وكتب جسده"، عن اهتمامات الجيل التسعيني في كتابة الجسد، باعتبارها أحد الحلول التي وجدها ممكنةً أمامه للتعبير عن الانكفاء الذاتي، بعد عقود من الاهتمام بما تسمى القضايا الكبرى في الكتابة. ولكن من الواضح أن هذا التوجه لم يجد أفقا بعيدا، فسرعان ما تلاشى مع بداية الألفية الثالثة تقريبا، لتدخل الاهتمامات الكتابية في ما يمكن أن يطلق عليها الفوضى الفردية، والتي تعبر بدقة عن حال الكتابة والكتاب طوال عقدين تقريبا.
بالتأكيد لن تكون أحكامنا دقيقة، حتى على صعيد الملاحظة والرصد، ما دمنا نعيش بالفعل في خضم الزمن نفسه، ولكن على الأقل هناك إشاراتٌ يمكن ملاحظتها ورصدها. ولهذا، لا ينبغي أن نصر على تسميتها الأحكام، ما دامت غير خاضعةٍ لمعايير علمية موضوعية حقيقية، وهي لا تتجاوز حالتها باعتبارها ملاحظاتٍ وإشارات قد تتغير بشكل فجائي أو انقلابي أحيانا. وأول تلك الملاحظات أن الصوت الإبداعي عاد فرديا ذاتيا بما يكفي لأن يعبر عن أصحابه وحسب، وبالتالي تخلى عن موقعه في التشكيل العام، كما كنا نلاحظ في السابق، وطوال النصف الثاني من القرن العشرين تقريبا، فالشعراء والقصاصون والروائيون الآن لم يعودوا مشغولين بتلمس موقعهم في السياق العام في حركة الإبداع العربي. ربما لا يتابعونه، ولا يهتمون بمعرفة جغرافيته، بل الأكثر من هذا إنهم أصبحوا يتعمّدون أحيانا مفارقة أي توجه عام، إن وجد، بحثا عما يمكن أن يكون خيارهم الفردي، حتى وإن عاد بهم ذلك الخيار إلى الوراء. ويحدث هذا فعلا لدى الشعراء أكثر مما يحدث لدى الروائيين، نتيجة عوامل كثيرة لا مجال الآن للتطرّق إليها، وسبق لي أن سميتها ظاهرة النكوص الشعري، وهي ظاهرة أفلت منها الروائيون، ربما تحت وطأة الاهتمام المفاجئ والمبالغ فيه أحيانا بالرواية وكتّابها من الناشرين والقراء في السنوات الأخيرة بالذات.
من الملاحظات الأخرى التي يمكن رصدها اختفاء ما يمكن تسميتها المدارس الأدبية، ولعل هذا الاختفاء هو نتيجة حتمية للملاحظة الأولى، فالفردية المتعمدّة أو الذاتية المقصودة في الكتابة لا يمكنها أن تتساهل في الانضواء تحت أي تيار إبداعي غالب، لأن هذا الانضواء، كما تظن، سيسلبها الكثير مما تحصلت عليه من نجومية أو ضوء بسبب فرديّتها المتقصدة. ولكن أكثر الملاحظات جدّية على صعيد الحالة الإبداعية هي حالة الانفصام التام ما بين المبدع في ما يكتبه من إبداع وأفكاره المعلنة في الحياة بعيدا عن الإبداع، وهي حالةٌ غريبة جدا، يمكن رصدها عبر قراءة ما ينتجه هذا النوع من المبدعين الشباب من قصص وقصائد وروايات وبين ما يكتبونه من مقالات أو يقولونه في المقابلات، أو حتى في حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، وهي المنصّات التي تبدو أكثر عفويةً في التعبير عن الأفكار. ولسنا هنا بصدد التقييم المنتهي بإصدار الأحكام، فهذا ما لا يناسب الحالة وظروفها المباشرة الآن، ولكننا على الأقل نلاحظ ونرصد .. ونستغرب.
CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.