ما أجمل العودة إلى البيت

15 يوليو 2024
كامل المغني/ فلسطين
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **الولادة من الظلام إلى النور**: يصف الكاتب تجربة الخروج من خيمة النزوح بعد شهر من المعاناة، مشبهاً إياها بولادة جديدة. يعبر عن الذل والانكسار الذي عاشه في الخيمة، وأهمية الوطن والبيت.

- **ليالي النزوح المرعبة**: يصف ليالي النزوح تحت قصف الدبابات الإسرائيلية، وفقدان الأمان، والصراع الداخلي حول قرار الخروج من البيت. يروي الحياة في خيمة النزوح، حيث البرد القارس وانعدام وسائل التسلية.

- **العودة إلى البيت**: بعد ثلاثين يوماً من النزوح، يقرر العودة إلى بيته في النصيرات رغم القصف. يصف رحلة العودة، الدمار، وتنظيف البيت، معبراً عن الفرح بالعودة رغم صعوبة الظروف.

عندما يخرج الجنين من بطن أمه يصرخ معلناً حضوره، من دون أن يعلم أهله أن صراخه هو الفرح بخروجه من الظلمة إلى النور. هذا تماماً ما حدث معي، أو معنا، بعد شهر كامل من المعاناة في ظلام خيمة النزوح، بكل ما يعنيه الظلام من ذل وانكسار، وعتمة تفقد فيها صواب الطريق، وتفقد بوصلة تحديد الاتجاهات والرؤى والأفكار، تصبح كالغريق في أعماق المحيط تجاهد من أجل النجاة والحفاظ على الروح أمام شح الموارد والغذاء، وأمام غول الآلة العسكرية الإسرائيلية.

لم تعد لدينا القدرة على احتمال العيش في خيمة لا تحمي برداً، ولا تستر عورة، ولا تمتلك فيها خصوصية، زوجتك تنظّف الأطباق، وتغسل الملابس، وتطهو الطعام على النار أمام الخيمة، وتدخل الحمام أمام الناس، فأنت تعيش في الشارع، أنت في خيمة. عندها يدرك المرء قيمة الوطن/ البيت الذي يحتضنك، ويمنحك الأمن والأمان، وتنام فيه من دون خوف، وتشرب ماء نظيفاً غير ملوث، وتأكل طعاماً غير معلب، وتشعر بالاستقلال الذاتي بعيداً عن مشاركة الآخرين في حياتك. 

كل الأحلام حلمناها، ولكن حلم النزوح في خيمة لم نره في أحلامنا، بل عشناه واقعاً قاسياً. لقد كُتب علينا أن نخطو خطوات أجدادنا وآبائنا على رمال النزوح في خيمة. كانت خيمتهم على رمال غزة، وخيمتنا على رمال رفح في أقصى جنوب غزة، فلم يعد ثمة مجال لنقول مع غسان كنفاني خيمة عن خيمة تفرق، فليس ثمة فرق بين خيمة وأخرى، تشابهت الخيام، وتشابه النازحون، فهم من أصلاب اللاجئين، وعدوهم واحد منذ ست وسبعين سنة، شُرد أجدادهم وآباؤهم، والآن يُشرَّد أبناؤهم وأحفادهم.


■ ■ ■


عند دخول ساعات الليل ويحل الظلام، تبدأ سمفونية قذائف الدبابات المتمركزة على الحدود الشرقية في إطلاق قذائفها نحو منازل المواطنين في المناطق الغربية بكل عنف وكثافة. فتزرع الخوف والرعب في القلوب، ويأخذ القاطنون في بيوتهم تحت نار القذائف في ترديد الشهادتين، فالموت يصبح قاب قوسين أو أدنى، خاصة مع اقتراب الدبابات الإسرائيلية من شارع صلاح الدين الذي يبعد عن بيتي أقل من نصف كيلومتر.

كل الأحلام حلمناها، ولكن حلم النزوح في خيمة لم نره في أحلامنا، بل عشناه واقعاً قاسياً

عندها تغيّرت أحوالنا وفقدنا الأمان، ولم يعد لدينا خيار البقاء في البيت بعد أن قرر جيش الاحتلال الإسرائيلي اجتياح المنطقة الوسطى من قطاع غزة، وحدد أماكن يجب النزوح منها، وكانت منطقة سكناي من ضمنها. 

بعد مشاورات جدلية بين أفراد أسرتي حول مسألة الخروج من البيت، ثمة من يوافق على الخروج، وثمة من لا يوافق على الخروج، تلك المسألة أخذت أياماً ونحن في جدل حول الموضوع، ومراجعة خريطة الأماكن التي يجب النزوح منها والتي وزعها جيش الاحتلال في النصيرات، هل تنطبق على مكان سكنانا أم بعيدة؟ نحاول أن نبحث عن شيء يشعرنا بالأمان لكي نبقى، ولكن هيهات.

لم تكن لدينا النية في الخروج من البيت، بل الإصرار على البقاء رغم القصف المدفعي العنيف، كيف سنترك بيتنا الذي زرعنا في جنباته أحلامنا المستقبلية، وتعشش في خلايا جدرانه ذكرياتنا بحلوها ومرها، كيف أترك مكتبي ومكتبتي اللذين يمثلان أكسجين الحياة لي، ليس من السهولة ترك البيت، لحظات قاسية وصعبة على النفس حينما قررنا الرحيل، نجاة الروح أقوى من كل الذكريات والأحلام، استودعنا البيت والعيون غارقة بالدموع.

وكان أصعب قرار اتخذته في حياتي، أن أخرج مع أسرتي نازحاً من بيتي، من وطني. وما أدراك ما النزوح؟ هو انتزاعك من بيتك.. من حياتك الى غياهب المجهول الذي ينتظرك في خيمة إيواء تحتضنك مع أطفالك وزوجتك، خيمة من النايلون والخشب على الرمال الصفراء، في زاوية من زوايا حي تل السلطان غربي رفح، منطقة عشنا فيها ولم أعرف اسمها غير أنها قطعة من الأرض تتناثر فيها البيوت، وعلى امتداد البصر رمال صفراء، ولكنها لم تعد صفراء، إذ لونتها خيام النازحين بألوان الطيف بحسب لون النايلون الذي استخدمه النازح في تغطية خيمته التي أرسى مداميكها من الخشب والمسامير، وجللها بالنايلون، الذي انكشفت عورته عند أول هبة ريح عاصفة، وأمطار غزيرة أغرقتنا وأغرقت خيام النازحين.

في ظل الحرب لا يوجد شيء طبيعي، ورغم ذلك لسان حالنا يردد ما أحلى العودة إلى البيت

البرد قارس يجمد الأطراف ليلاً، وقد حاولت زوجتي أن تجمل المكان بهدف الدفء من خلال وضع سجادة على الرمال وعليها فرشات النوم، ورغم ذلك لا تشعر بالدفء، فالخيمة ليست وطناً كالبيت، هناك تشعر بالدفء على بلاط الأرضية.

■ ■ ■

ليل النزوح يختلف كلياً عن الليل العادي الذي تقضيه في بيتك. في البيت تسهر كما تشاء مع وسائل التسلية أو القراءة والكتابة أمام جهاز الكمبيوتر، ولكن في خيام النزوح ليس ثمة ما يسليك غير الجوال إذا كان ثمة إنترنت، في خيمتنا ليس ثمة إنترنت يصل إلينا، حيث أقرب نقطة للإنترنت تبعد عنا مائة متر. في التاسعة صباحاً تشتغل النقطة فأذهب إليها لتنزيل الأخبار وقراءتها، بعد شراء بطاقة، وفي ساعات الظهر أعود إلى النقطة نفسها لكي أنزل ما استجد من الأخبار، وهكذا حتى الساعة التاسعة مساء حيث لا يتبقى لك ما تفعله مع اشتداد البرودة، فتبحث عن مكان للدفء داخل الخيمة، أحياناً تضع سماعات الأذن في أذنيك موصولاً بالجوال لكي تستمع إلى نشرات الأخبار.

في أيام النزوح لم يعد للزمن قيمة أو للوقت أهمية، تتوالى الأيام من دون هدف، وتتكرر بالوتيرة الرتيبة نفسها، فأنت محصور في إطار غير مألوف لديك، تحاول أن تصنع علاقات مع جيرانك في الخيام لكي تمضي الوقت، أو تذهب إلى السوق لكي تشترى أي شيء موجود بهدف أن تطعم عائلتك، فليس أمامك خيارات، بل أنت محكوم بما أمامك. في خيام الإيواء ذابت الفوارق الطبقية، وفيها تجد حملة الشهادات العليا، والأطباء، والمهندسين، ورجال الأعمال، والكتّاب والباحثين والأدباء والشعراء والأكاديميين، والطلاب، وعمداء الأمن، والتجار، والمرأة والطفل، والرضيع، والكبير في السن، جميعهم تحت الخيام في بقعة صغيرة بحثاً عن الأمان، ولا أمان موجوداً في قطاع غزة. هنا يعيش الإنسان مهدور الكرامة.

■ ■ ■

أستيقظ باكراً جداً كالعادة منذ نزوحنا في خيمة اللجوء، أستمتع بصباح البرودة المشبعة بقطرات الندى، برودة اليوم مغايرة لكل برودة، فاليوم كان قرارنا بالعودة إلى البيت في النصيرات، شعور مختلف ممزوج بالانبساط والخوف معاً. فالقصف ما زال مستمراً، ولكن لم تعد لدينا طاقة على الاحتمال، ولا بيت يؤوينا. اليوم الثلاثون من أيام النزوح، يوم غير عادي لي ولأفراد عائلتي. 

في ساعات المساء اتفقت مع سائق شاحنة كان يقيم في خيمة بالقرب منا أن ينقلنا إلى النصيرات، وعند ساعات الظهر في اليوم التالي انطلقت بنا سيارة الشحن التي حملت عفشنا من منطقة النزوح في حي تل السلطان مخترقة شوارع الحي، ثم الحي السعودي إلى ميدان الطيارة، وصولاً إلى مستودعات أو بركسات الوكالة وهي مخازن وكالة الغوث، واجتزناها إلى منطقة الشاكوش، ثم المتنزه الإقليمي، ومحطة العطار، وجامعة الأقصى مروراً بشارع النص حتى وصلنا إلى ما قبل شارع خمسة غرب خانيونس القريب من ناحية البحر.

في الطريق تتجلى المأساة أمام ناظريك، حيث تنتشر خيام النازحين في كل مكان من رفح وإلى الطريق المؤدية إلى خانيونس وصولاً إلى دير البلح، هؤلاء جميعهم فقدوا بيوتهم، فقدوا حياتهم، فقدوا مستقبلهم، جراء الحرب المجنونة التي تدار على رؤوسهم. يستمر مشهد الخيام، خيام متراصة على جانبي الطريق بعضها بجوار بعض على امتداد البصر، وضعت عشوائياً لا يفصل بين الخيمة والأخرى سوى سنتيمترات معدودة، خيام مختلفة الأشكال والأحجام بعضها يغطيها النايلون، والبعض الآخر شوارد أو قماش، وفي أحيان أخرى أغطية من الحرامات والبطانيات البالية والممزقة.

وقبل الوصول إلى مفترق جامعة الأقصى انحرفت الشاحنة بنا في طريق ترابي يصل إلى البحر، خوفاً من قوات الاحتلال التي تطلق نيرانها صوب كل من يتحرك على الطريق غرب خانيونس، وكانت الطريق على الساحل ميسرة وهادئة، ولكن يستمر مشهد انتشار الخيام على سوافي الرمال المنتشرة شرق الطريق الساحلي، والباعة منتشرون على جانبي الطريق يبيعون مواد غذائية ومعلبات، وسولاراً للسيارات، وأشياء أخرى مثل طاولات وكراسي وبطاريات وألواح طاقة.

واصلت سيارة الشحن طريقها وصولاً إلى دير البلح، ثم الزوايدة، ثم انحرفت دخولاً من الطريق الساحلي إلى مخيم النصيرات حتى الوصول إلى البيت. طوال الطريق داخل المخيم كنا نشاهد الدمار الكبير الذي طاول منازل المخيم من تدمير وقصف، حيث لم تكن العديد من هذه المنازل مدمرة قبل نزوحنا من المخيم، عشرات المنازل طاولتها صواريخ الطائرات وقذائف الدبابات خلال استهداف المخيم، وثمة دمار كبير طاول البنية التحتية وشوارع عديدة.

وصلنا إلى البيت، وأنزلنا عفشنا، ومشاهد الخراب الذي أحدثه القصف المجاور لبعض المنازل، واضحة في الشقة، غبار كثيف يجلل الشقة، وزجاج الشبابيك مكسر وملقى على الأرض، نظّفنا البيت من سواد غبار القذائف، والحريق الذي طاول العمارة المجاورة لنا، جراء صاروخ اخترق أسقفها الأربعة وانفجر في الطابق الأرضي، ما أدى إلى اشتعال النيران، من دون أن تجد من يطفئها، فبقيت مشتعلة ساعات طويلة حتى غطى دخانها أجواء المنطقة. وطاول القصف زجاج الشبابيك، فأصلحنا الشبابيك وتغطيتها بالنايلون والكرتون لعدم توفر الزجاج.

بدت الأوضاع في المخيم هادئة بصورة حذرة، فالقصف نسمعه بعيداً، ولكنه لم يدم بعيداً، إذ بعد أيام من عودتنا اقترب كثيراً من أجواء المخيم، وطائرة الاستطلاع تواصل تحركها بكثافة في أجواء المخيم.

بدأنا نحاول العودة إلى الوضع الطبيعي، إلا أنه في ظل الحرب لا يوجد شيء طبيعي، ورغم ذلك لسان حالنا يردد ما أحلى العودة إلى البيت، ثمة شعور لا يوصف.

ومهما كانت الظروف صعبة من حيث عدم توفر مقومات الحياة، كالغاز والكهرباء والمياه والإنترنت، بعد أن دمرت قوات الاحتلال الكثير من المحال التجارية ومحطات توزيع الغاز، وآبار المياه، ورغم ذلك يبقى العيش في البيت أفضل بكثير من العيش في خيام النزوح. لهذا تجد كل النازحين في الخيام يرددون بكل ثقة وإيمان أنهم يريدون العودة إلى بيوتهم حتى وإن كانت مدمرة، وأنهم سوف يبنون الخيمة على الأنقاض والركام.
 

* كاتب وباحث من غزّة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون