"انتقام بارد"... لحظة حيرة أم تسلية؟
تفترض نظريات التلقي أننا كجمهور نُجهز من أجل استقبال المحتوى، أو حسب المصطلح، خلق "دماغ جاهز" لدى المشاهد، أي أن الصور وتكرارها وتراكمها يهدد عقل المشاهد، إذ يختزل ويستنزف المعنى ويحارب الملكة النقدية ويستبدلها بوعاء كي نتلقى المعنى/ الرسالة/ الشيفرة/ القيمة، وما تحويه من سياسة أو جمال.
هذا الاستعداد أساسه التشفير، لخلق التصديق بيننا وبين وما نشاهده عبر عدد من التقنيات والديكور وتدفق الحكاية والمونتاج والحوار، وتلك التي يمكن أن تتسلل إلى الرسالة، أو تظهر بوضوح عبرها من دون أن نشعر بها. وكلما ازداد الإتقان في ما سبق، تتعطل الملكة النقدية لدى المتلقي، أو ما يُسميه الفرنسي برنار نويل بالاحتقار الإعلامي، ذاك الممارس علينا كي لا نفهم، بل نتلقى فقط، لنعكس الرسائل المتسللة إلينا.
كسر هذا الإطار، أو التساهل، أو السهو، يعلق التصديق، ويتحول من نراهم على الشاشة من شخصيات إلى ممثلين يؤدون شخصيات، أي نفقد القدرة على التماهي مع الحكاية. هذه "الأخطاء" نتلمسها في مسلسل "انتقام بارد" (بصمة حدا). لا نتحدث هنا عن الألوان أو تصحيح الألوان في المسلسل، حيث كل شيء "أزرق" بصورة غريبة، بل لحظات يكسر فيها الوعاء وينقطع تدفق الحكاية، لنرى أنفسنا أمام جدل: هل ما حصل كان سهواً أم مقصوداً؟ العمل من بطولة خالد القيش وميلاد يوسف وجيني أسبر ونضال نجم ويزن خليل وحسام تحسين بك ووفاء موصللي وربى الحلبي وبلال مارتيني وعبد الرحمن قويدر وسارة الطويل ويارا دولاني وفرح خضر، وفادي صبيح كضيف شرف.
مثلاً، "سارة" مصابة بالشلل نتيجة حادث سيارة، ولديها ممرضة. طبعاً سارة تتحرك قدماها عدة مرات، ولاحقاً حين يدخل زوجها الطبيب النفسي جلال إليها لتفقدها، نرى الممرضة المسؤولة عنها تجلس على الكرسي المدولب الخاص بـ"سارة"، هكذا، من دون أي اعتبار أو مشاعر أو تقدير أو احترام. وبعد أن تذهب، يأتي زوجها الطبيب النفسي ليحتل المكان نفسه. يمكن أن نفهم سبب ذلك، لكن لمَ جلست الممرضة، ألا توجد كراسي في المنزل؟ أليس من المفترض أن يكون معيباً أن نجلس في الكرسي المدولب الخاص بأحدهم؟ خصوصاً وهو نائم إلى جانبنا في السرير؟
الأمر نفسه يتكرر في مشهد يخدر فيه الطبيب النفسي أحدهم، والمقصود هنا "وليد"، ذاك المشتبه بأنه المتسبب بحادث السيارة الذي أصاب سارة بالشلل. بعيداً عن هزلية الأداء الذي يقدمه الممثل المخدّر، ما أن يطرد "جلال" ضحيته، حتى يتجه "وليد" المخدر إلى الأعلى، أي يخرج من باب المنزل، ويأخذ الدرج المتجه إلى الأعلى، لا إلى الأسفل إلى خارج البناء، ربما سها الممثل، ربما المنزل تحت الأرض أو طابق أرضي، كل الاحتمالات قائمة.
الأهم ما يتناوله المسلسل نفسه، أي الطب النفسي الذي يظهر كترديد لأشهر العبارات المتكررة عن اللاوعي ومعنى الأحلام، والرغبات الدفينة. كلام عام لا يحمل أي خصوصية تتعلق بالمريض، بل والعلاج الذي ينصح به "جلال" أحد مرضاه هو مواجهة مخاوفه، علماً أن هذه المخاوف تتجاوز الخوف من قيادة السيارة، نحو مواجهة احتمال أن أحداً ما يراقبه، بل ويمكن أن يقتله. الأهم: كيف يمكن تصديق محلل نفسي مصاب بنوع من الفصام ينام مع واحدة من مريضاته، وينصح واحدا من مرضاه بمواجهة مخاوفه؟ ناهيك عن مشهد الحادث نفسه، ذاك الحادث الذي يحرك فصام "جلال" ويحرك الرعب فيه.
المشهد الذي يبدو وكأن "جلال" يتذكره، أو يحضر كحلم يقظة، لكن هل الأسلوب الوحيد لتقديم ذاكرة عن حادث مرعب وتسبب بصدمة نفسية هو إبطاء الصورة؟ نعم... إبطاء الصورة وتكرارها، لكن بطئاً عن بطء يختلف، هناك ذاك الشعري، المقطّعة الحركة فيه بصورة منطقية، وهناك الذي يكتفي بتكرار اللقطة نفسها بصورة بطيئة، وكأن "الشريط علق".
لا نحاول هنا أن نتصيد الأخطاء والسهوات، لكننا نشير إلى أن تراكمها وتكرارها يعطل المشاهدة والتصديق، بل ويتركنا، نحن المشاهدين، في لحظة حيرة: هل نصدق ونتابع ونتقبل الرسالة والمعنى المعلّب ونحن "نتسلى"؟ أم نتحول إلى مشاهدين ساخرين، لا نصدق أن ما نراه أمامنا نتاج جهود العشرات، بل نتابع لنتصيد أكثر ما يثير فينا الضحك.