الدراما المغربية... "بوسترات" بذاكرة متصدعة
في "بوسترات" (ملصقات) دراما رمضان 2022 تحضر الهشاشة باعتبارها علامة وجود، تطبع مسالك وصُوَر التلفزيون المغربيّ، فلا غرابة أنْ تعتمد القناتان الأولى والثانية، على شكلٍ من "البوستر" القائم على صُوَر البورتريه، حيث يُمكن لأيّ شخصٍ أنْ يبرع في إعداده، انطلاقاً من هاتفه الذكي، دون شرط الدراسة أو شراء برنامج فوتوشوب.
هذا حاضرٌ بشكل بسيطٍ وبنسقٍ رتيبٍ في أعمال من قبيل: "التي را التي"، و"بيّا ولا بيك"، و"زنقة السعادة"، إذْ يغدو الملصق بمثابة ممارسةٍ عيانية هامشية، لا تحظى بأهمّية بالغةٍ على مُستوى إعداد الصورة، كما هو الشأن لباقي العناصر الجماليّة الأخرى كالمونتاج والتصوير مثلاً. ففي "بنات السي الطاهر" (2022) نكتشف أنّ صنّاع هذا العمل، لا يُميّزون بين التصميم الإشهاري الخاضع لقوانين العرض والطلب، وبين التصميم الفنّي الاحترافي المُستند على جماليّات التخييل والابتكار. لذلك يُطالعنا الملصق باعتباره بورتريه تلقائيا تتخلّله ألوانٌ لا مُتوهّجة، رغم أنّها تتماهى بصرياً مع المُحتوى الساخر للعمل.
ونفس الأمر يتكرّر بشكلٍ تنميطيّ في بوستر عمل "التي را التي" وعدم قُدرة المُصمّم القبض على مشهدٍ كوميدي مُؤثّر يُجمل تفاصيل السلسلة من خلال حركةٍ كوميديّة تدفع المُشاهد إلى التفكير والتأمّل واسترجاع شخصية "كبور" ومكانتها داخل المتخيّل الشعبي المغربيّ.
يستقبل التلفزيون المغربيّ الرسميّ شهر رمضان الحالي بالكثير من التطبيل الفنّي. وكأنّ هذا الوسيط البصريّ، قد وصل إلى مرحلةٍ اكتملت فيها شروط حداثته الفنّية والجماليّة، وغدا ينتظر فقط مرحلة العبور إلى "ما بعد الحداثة"، رغم أنّه لم يدخل إلى الحداثة بعد، على مُستوى التأليف الدراميّ والإنتاج الإشهاري. بما يجعله مُساهماً بعمق في صناعة الحداثة البصريّة داخل العالم العربيّ.
نعيش يوميّات شهر رمضان، وقد أعدّت لنا المحطّات التلفزيونية ركاماً هائلاً من بوسترات المسلسلات الدرامية والمقاطع الهزلية والأفلام التلفزيونية، التي لا يتوفّر بعضها على أدنى شروط المهنية. والسبب لا تتحكّم فيه أيّ نوازعٌ فنّية أو هَواجسٌ جماليّة، بل تعود أساساً إلى غياب "مبدأ" الاعتراف بصناعة البوستر كمشروعٍ بصريّ، لا ينفصل عن العمل الفنّي. حيث يُشكّل امتداداً عميقاً لما يُمكن أنْ نُسمّيه بـ "براديغم الصورة التلفزيونية" وهو نسيج من الشبكات البصريّة المُتواشجة فيما بينها، تتحكّم في دلالاتها عدّة أنماطٍ من الصورة سينمائياً وتشكيلياً وفوتوغرافيا وإشهارياً.
ليس غريباً أنْ يُعدّ فنّ البوستر صناعة قائمة الذات في فرنسا وأميركا وألمانيا، فهو تخصّص تقني في عمله، لكنّه يتنزّل في نفس الوقت منزلة الإبداع، باعتباره خطاباً بصرياً مُركّباً، يدعو المُصمّم دوماً إلى الانخراط في فهم هذا البراديغم البصريّ وتواشجات الصورة وأنماطها. إذْ يصعب على صاحب البوستر فهم الإمكانات الجماليّة التي يُتيحها بالنسبة للمُتلقّي. فهو يُقرّبه من عالم المسلسل التلفزيوني وفق خطّة بصريّة، قد لا تكون تهدف في أساسها إلى عنصر الإفهام. إلاّ أنّها تدعوه إلى التأمّل في جوهر العلامات والرموز والبورتريهات.
لم يتجاوز التلفزيون المغربيّ الملصق الإشهاري الذي يهدف إلى تقديم المعلومة، إلى "البوستر الفنّي" الذي فيه يتجاوز المُصمّم كلّ ما هو مُتعارف عليه تقنياً وما يرتبط به من عناصر ثابتةٍ تُحدّد هويّة الإعلان. حيث يُصبح للمُصمّم/ الفنّان مكانة مركزيّة داخل نسيج العمل الدرامي، لأنّ قُدراته تتجاوز كلّ ما هو تقني إلى فضاءٍ إبداعيّ تتواشج فيه جماليّات الصورة بقوّة الفكر.
هذا غير حاصلٍ بالمرّة داخل التلفزيون العمومي في المغرب، إذْ على الرغم من وفرة البرامج الفنّية والمَواهب الواعدة، لم يحسم في أمر هذه الصناعة على المُستوى الفنّي. طالما يعتبر أنّ صناعة البوستر تقنية وعَابرة وغير مُؤثّرة في نفوس وعقليات المُشاهد المغربيّ. رغم أنّ المُشاهد المعاصر، أضحى له وعيّ كبيرٌ بجماليّات الصورة، بحكم وجوده اللامرئي في عالم متلوّن تتحكّم فيه الصُوَر. إنّها تستخدمه وتُوجّهه قبل أنْ يحدس بذلك. وإنْ فعل، تظلّ تُمارس عليه ضرباً من السحر الذي يجعله أسيراً لسيرتها اللامرئية.
إنّ مشكلة تصدّع فنّ البوستر في أعمال رمضان 2022 كـ "الكابتن حجيبة" و"الفلوكة" داخل التلفزيون المغربيّ، تتحكّم فيه أبعادٌ فكريّة تتمثّل في عدم حدس هذا الوسيط أنّه يشتغل داخل عالم من الصُوَر الذي لا يمت لواقعنا الفيزيقي بصلةٍ. وأخرى تتّصل بهواجس تقنية، تدعو المخرجين إلى إعادة ضبط نظم أعمالهم في علاقتهم بالوسيط التلفزيوني، بل وطرق تفكيرهم فيما يتعلّق بصناعة "البوستر".
في سياق المُشاهدات الرمضانية اليوميّة، لا نُطالب التلفزيون الرسميّ بضرورة استيعاب هذا التحوّل الفكريّ - المَفاهيمي، بل احترام ذوق المُشاهد المغربيّ وإمكاناته المعرفية المُتراكمة بالصورة وقُدراته التحليلية المُذهلة. يأتي شهر رمضان في كل سنة، إلا ليختبر إدراكاتنا وخيالاتنا وثقافتنا الفنّية. إنّه يُعرّي المنظومة البصريّة المغربيّة ويكشف زلاتها وأعطابها وتصحّر خيالها، فلا غرابة أنْ يهرب المُشاهد إلى قنواتٍ أجنبية تُمطره في كل دقيقةٍ بسيلٍ من الصُوَر الجماليّة وبجودة المسلسلات والأفلام والمسرحيات والسهرات والبرامج، في وقتٍ لا تُميّز فيه تلفزيونات السُلطة في المغرب، بين "البوستر" الإعلاني الدعائي ونظيره الفنّي الإبداعي.