استعادة المَلَكيّة في العراق
أثارت انتباه عراقيين كثيرين في المشهد السياسي الذي انبثق ما بعد 2003 عودة أحد أحفاد العائلة الهاشمية التي كانت تحكم العراق في النصف الأول من القرن العشرين، الشريف علي بن الحسين، والذي كان يسمّي نفسه "راعي الملكية الدستورية في العراق". وقد دعا، من خلال الانخراط في العمل السياسي في العراق، إلى استفتاء شعبي عام، يحدّد ما إذا كان الشعب العراقي يقبل عودة النظام الملكي أم لا.
لم يحصل الشريف الهاشمي على فرصة لإجراء هذا الاستفتاء، لأن مفاعيل القوى الحاكمة على الأرض كانت أقوى وأكثر تأثيراً، ولم يحصل، بسبب ذلك، على حضورٍ مؤثّر في الدورات البرلمانية المتعاقبة، وانتقل بتحالفاته ما بين أكثر من جبهة، حتى تلاشى حضور الشريف مع حركته الملكية وتراجع تأثيرها، وكان مؤثّراً سماع خبر وفاته في عمّان في 14 مارس/ آذار 2022 وهو في السادسة والستين.
هناك عدّة تجارب عن عودة النظام الملكي بعد سقوطه، لعلّ أشهرها سقوطه في إسبانيا في 1930 بسبب فوز الحزب الجمهوري في الانتخابات ومغادرة الملك ألفونسو الثالث عشر أراضي البلاد. لكن هذه الجمهورية سرعان ما سقطت بانقلاب عسكري بعد تسع سنوات، ليعيد الجنرال فرانكو، أحد قادة الانقلاب، النظام الملكي، وما زالت الملكية قائمة في إسبانيا.
قد يبدو هذا الاحتمال شبه مستحيلٍ في ظروف العراق، خصوصاً أن الأحزاب الكبيرة كانت تنظر إلى التوازنات الطائفية في توزيع المناصب الكبرى، خصوصاً الأحزاب الإسلامية الشيعية، التي لديها موقف سلبي من المرحلة الملكية العراقية أصلاً، وتتّهمها بالتمييز الطائفي ضدّ الشيعة، فكيف يقبلون بعودة ملك "سنّي"، وإن كان بصلاحيات رمزية مقيّدة بالدستور.
وفي المراجعة العامة، ينقسم الباحثون في آرائهم بشأن الفترات السياسية في العراق الحديث، وتحديداً الفترة الملكية مقارنة بالحقب الجمهورية اللاحقة، فهناك من يرى أن العراق الحديث الذي نعرفه هو مشروع الملكية الهامشية بالدرجة الأساس، وكل أسس الدولة الحديثة في العراق بنيت في العهد الملكي. وعلى الطرف المقابل، هناك من يُحاجج بأن النظام الملكي كان قد وصل الى انسداد سياسي، وما الانقلاب العسكري الذي حدث في 14 يوليو/ تموز 1958 إلا تعبير عن آمال قطاعاتٍ لها ثقلها في الشارع السياسي العراقي في وقتها، كانت ترغب بزوال النظام الملكي.
في كلّ الأحوال، وبعيداً عن التحزّبات السياسية والأيديولوجية فإن حسابات الأرباح والخسائر، بالأرقام والوقائع، تكاد تحسم صراع التفضيلات، وتُرينا بوضوح أن المسار الذي كانت التنمية تسير على ضوئه في العهد الملكي يمضي بشكلٍ متصاعد، على الرغم من التأخّر الاقتصادي والاجتماعي في مختلف المحافظات العراقية في وقتها، وهو تأخّر استثمرته قوى المعارضة في وقتها دعائياً ضد النظام الملكي، ولكن المثير أن سلطة الضباط الانقلابيين لاحقاً لم تقم بعملٍ ثوري سوى أن فتحت ملفات مقرّرات مجلس الإعمار الملكي، ونفّذت المشاريع التي أقرّها هذا المجلس الملكي بالأساس. والمثير أكثر أن الضباط لم ينفذوا كلّ هذه المشاريع وحذفوا بعضها، مثل مشروع فندق بغداد هيلتون الذي وضع حجر الأساس له في 1957، ولم تتحرّك العجلة لإنشائه إلا في السنوات الأخيرة!
في مجتمع يخضع لمنظومة السلطة الأبوية بشكل عميق، كما هو المجتمع العراقي، يرى بعضهم أن النظام السياسي الملكي كان منسجماً معه تماماً. وعلى الرغم من القوة الضابطة للسلطة الملكية، كانت العملية الديمقراطية تنمو وتنضج، ولم تمنع هذه الحقيقة باحثاً يسارياً مثل حنّا بطاطو من الإقرار بها. هذا إذا أخذنا بالاعتبار أن الديمقراطية لم ترجع إلى العراق بعدها حتى العام 2003.
كل الكلام أعلاه عصف ذهني أكثر مما هو قناعاتٌ قارّة ونهائية. وقد ينفع التساؤل، مرّة أخرى، عن واقعية (وجدوى) إجراء استفتاء جديد، يبدي فيه الشعب العراقي، بعد 20 سنة من تجربة سياسية "محزنة" رأيه في استعادة النظام الملكي.