اعتراض خفيف
تساءل سكرتير اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي العراقي، رائد فهمي، قبل أيام، في تدوينة له، عن أسباب التضييق على حرّية التعبير في العراق، في النشر والتظاهر وغيرهما، وهل هذا التضييق اجتهادٌ شخصيٌّ من مسؤولين ورجال أمن أم هو سياسة رسمية؟
هناك أشياء كثيرة مُلفتة في هذه التدوينة، فالتساؤل ابتداءً يشي بأنّ فهمي غير مُطلّع على السجل الدامي لقمع حرّية التعبير في العراق، في الأقلّ منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2019، ولم ينتبه إليه إلّا أخيراً (!). الأمر الثاني أنّ تصريح شخصية بارزة في حزب سياسي أساسي هو جزءٌ من العملية السياسية منذ 2003، يكشف أنّ الأعراف تغيّرت حتّى بين دائرة الأحزاب المعروفة، فعلى الرغم من أنّ الجوّ الإسلامي الصارخ الذي طبع العشرين سنة الماضية، إلّا أنّ الحزب الشيوعي العراقي احتفظ بمساحته من الحركة وحرّية التعبير، مُتحصِّناً بمجموعة من المعطيات، أكثرها أهمّية طبيعة العلاقات الشخصية بين قيادات الحزب الشيوعي مع رفاق النضال ضدّ نظام صدّام حسين، إسلاميين وغيرهم، والذين صاروا في السلطة اليوم. وأيضاً أدوار الوساطة الذكية التي مارسها الحزب بين التيّارات السياسية المُتخاصمة أو بين الطبقة السياسية والشارع، ثمّ أخيراً؛ العلاقة المميزة مع التيّار الصدري، والتي تُوِّجت بقائمة انتخابية موحَّدة؛ "تحالف سائرون"، في انتخابات 2018.
لم تكن حظوظ الحزب الشيوعي جيّدة في أيّ من الدورات الانتخابية المتتالية، وظلّ موقعُه هامشياً في مُؤسّسات السلطتين، التشريعية والتنفيذية، ولكنّه كان جزءاً أساسياً من نظام المُحاصصة، وكان يحصل أحياناً على مناصب وكلاء أو سفراء ومديرين عامّين، حتّى إنْ لم يحصل على أيّ مقعد انتخابي. ومع ذلك، وللمفارقة، يبقى الحزب الشيوعي أقوى تنظيم علماني في العراق، وهو مع حزب الدعوة قد يكونان التنظيمين السياسيين الوحيدين، من بين التنظيمات والتيّارات كلّها، اللذين تنطبق عليهما شروط الكيان الحزبي، ولديهما انتخابات داخلية دورية لاختيار القيادات العليا في الحزب. بالإضافة إلى أنّهما (مع "الديمقراطي الكردستاني") أقدم الأحزاب في الساحة العراقية.
بالعودة إلى رائد فهمي، إنّه يعرف "البير وغطاه"، وكواليس ما يجري في العملين، السياسي والأمني، في العراق. ويعرف تماماً أنّ ما يسمّيها "سياسة رسمية" تعبير هلامي غامض، فما هو الرسمي في العراق؟ هل هو ذلك الشيء الممهور بأختام دوائر السلطة والحكومة، أم ما يُفرض على الأرض من سياسات الأمر الواقع؟ هل تملك السلطة الرسمية القدرة على بسط نفوذها على كامل الفضاء العام في العراق، قانونياً وأمنياً، أم أنّ هذا الفضاء تتعايش فيه السلطة الرسمية من سلطات السلاح المليشياوي ومخابرات الدول المجاورة؟
أكاد أجزم أنّ فهمي يعرف جيداً أنّ الأجواء في العراق، في ما يتعلق بحقّ التعبير عن الرأي والتظاهر والاحتجاج، هي أقرب إلى تلك التي في دولة استبدادية، وأنّ العراقيين خسروا بسبب تهاون الشركاء السياسيين وفسادهم المكاسب كلّها التي لمسها العراقيون بعد عام 2003، وفي مقدمتها حرّية الرأي والتظاهر، وحقّ المواطنين في اختيار من يمثلهم بكلّ حرّية ومن دون إرهاب أو تضييق.
هناك قاعدة علمانية (أو لا إسلامية) كبيرة بين الناخبين في العراق، ولكن لماذا لا يصوّتون للحزب الشيوعي العراقي؟ ولماذا يُحجم كثيرون منهم عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع؟ قد يكون من الأسباب شعور جزءٍ من هؤلاء الناخبين المفترضين بأنّ الزمن تجاوز الأحزاب الشيوعية وأفكارها. وقد يكون من الأسباب عدم القناعة بالأشخاص الذين يُقدّمهم "الشيوعي العراقي" مُرشّحين للانتخابات. ولكنّي أزعم أنّ هذا الناخب المتواري خلف باب بيته لا يرى بين الوجوه المُرشّحة أفراداً لديهم شجاعة كافية لإهالة التراب على الجثّة المتفسّخة للطبقة السياسية الحاكمة اليوم.
في آخر انتخابات (أكتوبر/ تشرين الأول 2021)، قدّم أحد المُرشّحين نفسه مناهضاً للأحزاب الإسلامية، ولكن من دون أن ينتقدها صراحة في شعاراته وفي لقاءاته التلفزيونية، وحين جادله أحد أصدقائه: لماذا لا تنتقد الأحزاب الإسلامية صراحةً، ردّ عليه مُعترِضاً: هل تريد أن تقتلني؟ (!). كذلك، قدّم حزبٌ معروف في دعاياته الانتخابية بأنّه ضدّ المليشيات ومع الدولة، غير أنّه انتهى للجلوس في وسط المليشيات، ويثرد معها اليوم في ماعون واحد.
هذه النبرة الاعتراضية الخفيفة لا تنفع عزيزي رائد فهمي، وعليكم أن تكونوا أكثر جرأة وشجاعة كي تنالوا ثقة الناس وتأييدهم.