البديل السياسي الغائب في العراق
كان من الواضح، عقب إطاحة الاحتلال الأميركي بنظام صدّام حسين في 2003، أنّ المجتمع العراقي لم يكن يملك أرضية صلبة في النشاط السياسي الحرّ، والتعامل مع أخلاقيات العمل السياسي المجتمعي، والتنافس بين التيّارات المُختلفة، وفلسفة العمل السياسي برمّتها. ذلك كلّه، بسبب غياب النشاط السياسي الحقيقي والحياة السياسية الحرّة في 45 عاماً، منذ إسقاط النظام الملكي في 1958 بيد العسكر.
كان هناك رأي يعتقد بضرورة العمل بحكومة مُؤقّتة عراقية تتعاون مع سلطة الائتلاف المدني لقوات الاحتلال، من أجل فرض الأمن والسيطرة في البلاد، وتهيئة الأرضية النفسية لتقبّل التحوّل الكاسح، الذي حصل، والمضي في مرحلة انتقالية تساعد في نشر أدبيات العمل السياسي الديمقراطي الجديدة. إلّا أنّ عاملَين ألغيا فكرة من هذا النوع. الأول بروز أعمال المقاومة المسلّحة، السنيّة والشيعيّة، ما جعل الأوضاع مُضطربة، ولا تشجّع على فترة انتقالية طويلة بإدارة مباشرة من قوّات الاحتلال. الثاني انتشار شائعة أنّ الأميركيين حينما يَضجرون سيعيدون نظام "البعث"، ويسلّمونه السلطة في البلاد ويغادرون. وهذه الشائعة كانت منتشرة بقوّة بين صفوف البعثيين السابقين، والمقاومين المتحالفين مع تنظيمات إرهابية، مثل تنظيم التوحيد والجهاد (أبو مصعب الزرقاوي).
وهي، أيضاً، شائعة كانت منتشرة في الأوساط السياسية والدينية الشيعيّة، جعلتها تشكّك بإخلاص الأميركيين للاتفاقات المبدئية التي في ضوئها أُسقط نظام صدّام حسين. وكان هناك دفع لتسليم السلطة للعراقيين عبر انتخابات عامّة. وهو الأمر الذي تحقّق لاحقاً، ما جعل 2005 سنة عجيبة، فتحت طائلة التفجيرات والعمليات الانتحارية والمواجهات بين المليشيات الشيعيّة والأميركيين. شهدت سنة 2005 ثلاث عمليات اقتراع عام، انتخابات الجمعية الوطنية الانتقالية (30 يناير/ شباط)، ثمّ الاستفتاء على الدستور (15 أكتوبر/ تشرين الأول)، وأخيراً الانتخابات البرلمانية (15 ديسمبر/ كانون الأول)، ولم تمرّ أيام الاقتراع من دون حوادث إرهابية راح فيها ضحايا عديدون.
كان واضحاً أنّ الثقافة السياسية وفهم الآليات الديمقراطية لم يكونا قد ترسّخا بعد، وأنّ الشعب العراقي لم يكن مهيأً لاتّخاذ قرارات مصيرية، في أجواء كانت تنذر بالحرب الأهلية، وتقاطع الإرادات والولاءات، واستمرار تردّي الأوضاع الأمنية والخدمية، والشعور العام بالتهديد. في تلك الأجواء، خرج على شاشات التلفزيون رجلُ دين شيعي ينتمي لواحد من التيّارات السياسية، وأفتى أنّ من لم ينتخب القائمة التي ينتمي إليها عليه أن يُعدَّ لله جواباً يوم القيامة. وظهرت ملصقاتٌ على الجدران، ومنشورات عديدة مُتطرّفة تَعِدُ بالويل والثبور وبعذاب جهنم لمن لا ينتخب.
خارج هذه الأصوات كان موقف مرجعية النجف مُؤيّداً لتوجه الناخبين إلى صناديق الاقتراع. وعلى حدّ رأي بعض الباحثين، ظلّت المرجعية مع كلّ محطّة من انتقال السلطة من المُحتلّ إلى أيدي العراقيين، تمارس دور الوسيط، الذي تمثّله في الظروف الاعتيادية مُنظّمات المجتمع المدني، التي كانت غائبة وغير فاعلة في تلك الأوقات. بالإضافة إلى هاجس تركيز السلطة في أيدي التيّارات الشيعيّة الإسلامية في أقرب وقتٍ ممكن، وعدم إتاحة المجال للأميركيين، كي يخلقوا تيّارات شيعيّة مُضادَّة، علمانية وليبرالية بالضرورة. كما أنّ شرعية النظام الجديد برمّته مرهونة باندفاع الشيعة والأكراد، وجزء من السنّة، للعمل داخل النظام الجديد، خصوصاً مع فوز رئيس ديمقراطي في أميركا، باراك أوباما، في يناير/ كانون الثاني 2009، الذي كان يُسمّي الملفّ العراقي بـ"نفايات بوش"، ويريد كنسه خارج البيت الأبيض في أقرب وقت.
في آخر تجربتَين انتخابيَّتَين (12 مايو/ أيار 2018 و10 أكتوبر/ تشرين الأول 2021) تخلّت مرجعية النجف عن دور الوسيط المباشر. فهل اكتسب العراقيون خبرة سياسية كافية لفهم آليات العمل السياسي بشكل دقيق من دون وساطة المؤسّسات الدينية أو دعايات الأحزاب الإسلامية التي تُوظّف الدين في خطابها للجمهور العام؟ في الحقيقة، استمرّ استثمار الدين والرموز الدينية، لأنّ التيّارات السياسية بلا برامج واضحة، والمُتغيّر الأساسي الذي يشير إلى زيادة الخبرة السياسية عند العراقيين هو شعورهم بإفلاس هذه التيّارات، وانتفاء وجود بديل قوي حتى اللحظة، ما دفع غالبيتهم إلى العزوف عن التصويت في يوم الاقتراع، كما حدث في انتخابات 2021.