اللطم على الهريسة
في الأمثال الشعبية العراقية، يقال لشخصٍ يقوم بعمل ما نفاقاً وتملقاً، إنه لا يلطم على الحسين وإنما على الهريسة. ولا علاقة للهريسة العراقية هنا بطبق الحلويات الشامي الشهير، وإنما هو حساء كثيف القوام مصنوع من الأرز والقمح وبعض الحبوب والبقوليات مع اللحم، ويختلف ببعض التفاصيل بين منطقة وأخرى. ويقدّم عادة في الطقوس الحسينية بالمجان على من يحضر الطقس. والهريسة تأتي ثانياً بين الأطعمة العاشورائية، فالأول هو طبق "القيمة"، ويتكوّن من حمّص مع لحم مهروس وتوابل، ويكون كثيف القوام ويقدّم مع الأرزّ.
خلال مراسيم زيارة الأربعين في الأسبوع الماضي، وهي المناسبة الكرنفالية الأكبر في الطقوس الشيعية المرتبطة بعاشوراء واستشهاد الحسين، جرّب غالبية السياسيين العراقيين الشيعة أن يلطموا على الحسين، ولكن الناس كانت تراهم، من دون جهدٍ بالغٍ في التدقيق، يلطمون على الهريسة ليس إلا. وهي هنا هريسة أكثر دسامةً من التي كانت تصنعها الأمهات الجنوبيات في الأحياء الشعبية، من مالٍ حلال يقتطع من عمل الآباء الفقراء، وفي ظلّ ظروف أمنية صعبة، أيام نظام صدّام، حين كانت الناس تخاف ممارسة طقوسها الدينية، خشية الاتهام من رجال السلطة بالعمالة لحزب الدعوة، المحظور في ذلك الوقت.
اليوم، رجال حزب الدعوة، الذين ورثوا المواقع السابقة لحزب البعث (المحظور) وقادة المليشيات يسيرون مع الناس إلى ضريح الإمام الحسين، ويلطمون معهم، بل ويقدّم بعضهم الطعام الى الزائرين، بضع دقائق ليس إلا، فقط بما يكفي المصوّر المرافق لالتقاط صور مناسبة للنشر على صفحات هذا السياسي في مواقع التواصل الاجتماعي.
يسير الناس العاديون إلى ضريح الإمام الحسين، غير عابئين بالتعليقات ذات الطابع العنصري، أو التي تسخر من المظاهر السلبية الموجودة بكلّ تأكيد خلال هذا المسير الطقسي، أو حتى بالمشكلات التي يفتعلها الساسة لإلهاء الناس، مثل استقدام خطيبٍ يشتم الصحابة لتأجيج صراع طائفي يشغل الناس عن سرقات الطبقة الحاكمة وفسادها وإجرامها.
يسير الناس ويؤدّون الطقس، ثم يعودون إلى بيوتهم، لأن ذلك مرتبط بعقائدهم وما توارثوه من إيمان، وهم كانوا يفعلون ذلك عقودا طويلة قبل أن تقرّر حكومة البعث، في سبعينيات القرن الماضي، إلغاء هذا المسير الكرنفالي الحاشد، خشية أن تستغله الأحزاب المعارضة، ولأن جماهير الناس السائرة بالآلاف في الشارع تُسقط الدولة تحت سطوة الأمر الواقع. وظل الناس محرومين من هذا الطقس ثلاثة عقود تقريباً، ثم عادوا إليه بعد سقوط نظام صدّام.
في السنوات الأولى ما بعد زوال نظام صدّام، قدّمت الطبقة السياسية الشيعية نفسها حاميةً وراعية ومدافعة عن هذا الطقس، وكأنه فعلاً يحتاج هذه المباركة والرعاية، وكأنه يتحرّك أو يتوقّف بأوامر منهم. حتى كنّا نرى سرادق منصوبة في الشوارع بأسماء الأحزاب، وبعضها يحمل صورة الزعيم السياسي. وكنّا نرى كيف أن الناس كانت تتجنّب هذه السرادق، لأنها ربما، تستشعر مع نفسها أن وحل السياسة يُفسد مسيرة الحج الحسيني التي تستهلك طاقة كبيرة بالمشي عدّة أيام.
اليوم أيضاً، يغسل الساسة أنفسهم في روحانيات الطقس الديني، ويشعرون لبرهة أنهم متّحدون مع الناس البسطاء والعوام تحت راية الحسين وعاشوراء، ولربما توهّموا أنهم مرّروا رسالة إلى الناس بأنهم يمثلونهم حقاَ، وأن الحسين يربطهم بعضهم مع بعض برباط مقدّس.!
في مشهد مثير، بعد سنة من تولّي حيدر العبادي رئاسة الوزراء بديلاً عن نوري المالكي، على كراهة من الأخير وبالضد من رغبته، كان الساسة العراقيون الشيعة يتحدّثون عن ضرورة إبعاد الطقوس الدينية عن صراعات السياسة، ولكن المالكي طار بالمروحية حتى كربلاء، وفي صخب الداخلين إلى ضريح الحسين في يوم الزيارة الاربعينية، ارتقى مكاناً مرتفعاً وصار يخطب فيهم، وكأن هذه الجموع جاءت إليه لتسمع كلامه، وليس لأداء طقس ديني، وهو الذي حشر نفسه حشراً معهم.
والحال أن الناس تعرف من هو ذاهب لزيارة الحسين فعلاً، ومن هو ذاهب إلى الهريسة، هريسة خداع الرأي العام من أجل التشبث بالمناصب والإبقاء على المنافع الآتية من الفساد ومخالفة القوانين والتآمر على مصلحة العراق ومستقبله واستهداف أبنائه الوطنيين بالقتل والتشريد والتغييب.