صورة صدّام
قبل أن أشرع في كتابة هذا المقال، ظهر أمامي، في "ستوريات" فيسبوك، مقطع من نصف دقيقة لأحد اجتماعات صدّام حسين مع أعضاء قيادته السياسية، وهو يتحدّث بنبرة تحدٍّ قويّة معتادة، مع خلفية موسيقية درامية. حصد المقطع آلاف الإعجابات ومئات التعليقات، وهو رصيد يحسُد صدّام عليه أي صانع محتوى اليوم... ويبدو أن من يصنع هذه المقاطع يهدف، ولا ريب، إلى هذه الإعجابات، ولكنه أيضاً يعبّر، من خلالها، عن قناعاته السياسية وتأييده، حدّ التبجيل والتقديس، الرئيس العراقي الراحل.
يرى من هم في عمر أبنائي هذه المقاطع المتنوّعة كلّ يوم تقريباً، وهي تظهر بشكل عشوائي، حتى عند الذين لا يبحثون عنها، بسبب خوارزميات مواقع التواصل المعروفة. وبغض النظر عن مدى اهتمام من يطالعها بالمضمون الذي تمرّره، فإنها تعيد إنتاج صدّامٍ مختلفٍ عمّا أعرفه ويعرفه جيلي ومن هم أكبر منّي. إنها صورة مفلترة، وخاضعة لمنطق الجدال مع اللحظة المعاصرة، فحين ترتفع في الأجواء الإعلامية نبرة التشكّي من السيطرة الإيرانية على العراق، تأتي هذه المقاطع لتعرض نبرة التحدّي الصدّامية، وكيف أنه، دفاعاً عن العراق من الاحتلال الايراني، خاض حرباً طويلة شرسة.
في هذه المقاطع، التي يقف خلفها ربما مجرّد أشخاص محبّين ومؤيدين لصدّام، أو جهات أكبر وأكثر تنظيماً وتمويلاً، يجري تقديم صورة لصدّام مناقضة لصورة السياسي العراقي الحالي. أكثر شموخاً ورفعة واستقلالية وجسارة (وربما أكثر شعبوية) مقارنة بمن هم في سدّة الحكم في العراق اليوم.
شبابٌ كثيرون كبروا في العهد الجديد أو ولدوا بعد العام 2003 لا يعرفون من صدّام سوى هذه المقاطع السريعة التي تتماشى مع روح العصر ومزاج مواقع التواصل الاجتماعي الأكثر شعبية بين قطاعات الشباب، كما هو تيك توك وسناب شات. وهم لا يشعرون بالفضول للاستماع إلى صراخ الأحزاب الحاكمة الحالية، التي كانت معارضة صدّام، بأن الأخير كان أكثر إجراماً وبشاعة من هذه الصور المفلترة والملطّفة والمنتقاة بعناية.
بالنسبة لي، هي مقاطع تمارس، من دون شكّ، نوعاً من تزييف الحقائق واقتطاع الجزء الأكبر من صورة صدّام ورميها في العتمة. ولكن موقفي هذا لن يجعلني أتطابق مع موقف الأحزاب الحاكمة في العراق، لأن زاوية النظر مختلفة.
تعاني السلطة الحالية في العراق أزمة عميقة من شقّين؛ الأول يتعلّق بصعوبة ترويج نفسها في عالم مفتوح معلوماتياً، وغير مركزي في البثّ، حيث يتمكّن أي شخصٍ من صناعة منصّة لبثّ خطابه وتصوراته من دون الحاجة إلى مؤسّسات الدولة. وفي هذا العالم المفتوح، لن يستطيع أحد فرض رأيه على أحد، لأن شاشة التلقي هي شاشة الهاتف المحمول الشخصي. وتحتاج السلطة العراقية إلى تحديث وسائلها الإعلامية، والى صناعة محتوىً ينافس في جذب انتباه الشباب، مكافئ، في قوته، المقاطع الترويجية لصدّام حسين.
الشقّ الثاني فقدان المصداقية، فالأحزاب والحكومات من 2003 لم تترك شيئاً "صدّامياً" لم ترتكبه، وصار لديها سجلٌ يشابه، وربما ينافس، في بعض المواضع، سجلّ صدام الإجرامي. فكيف أتقبل أن تطرح هذه الأحزاب نفسها نقيضاً لصدّام.
نحن "المخضرمين" الذين عشنا شطراً من حياتنا تحت ظلّ صدام، والشطر الآخر تحت ظل النظام السياسي الحالي، نعرف جيداً لسعات السلطة الاستبدادية على جلودنا. ولا تنطلي علينا المؤثرات الموسيقية الدرامية المصاحبة لمقاطع صدّام الترويجية. لكن النظام السياسي العراقي الحالي يرتبك، ولا يعرف ماذا يفعل أمام هذا المد الترويجي لصدّام، والذي من آثاره أن تضع فتاة جامعية في يوم تخرّجها صورة صدّام على قبّعة التخرّج، فتلجأ السلطة إلى إجراء منفعل يقضي بفصل الطالبة من الجامعة، متجاهلةً أن هذه الإجراءات العقابية لن تنزع الموقف الذي في رأس الطالبة، بل ربما تعزّزه وترسّخه أكثر.
يحتاج الوقوف بوجه هذه الثقافة التي تركب على أمواج مواقع التواصل الاجتماعي، أولاً، إلى أن يثق المواطن بالنظام السياسي، وأن يصدّق أنه فعلاً نظام نقيض لنظام صدّام وأفضل منه. وأن يتجاوب (هذا النظام) مع روح العصر، فإجراءات صدّام العقابية ضد المخالفين لا ينفع أن نعيد تطبيقها اليوم.