ضمان الاستقرار
على الرغم من كل الانتقادات التي تطاول الحكومة العراقية بشأن جديّتها في مسائل الإعمار والتنمية، ووعودها بتوفير الطاقة الكهربائية في هذا الصيف، أو تباهيها بـ"الاستقرار" الذي تحقّق في العراق، والذي تعتبره نقطة انطلاق باتجاه مشاريع تنموية، لكنني لا أنتقد من يشجّعها ويشيد بما تقدّمه، حتى لو كان دون مستوى الطموح، على أمل أن تتزايد الإنجازات والنجاحات.
الاستقرار ضروري لأي تنمية في البلاد، وهو البوابة لأي نجاحات تتحقّق على الأرض ويلمسها المواطن، وقد تعلّل رؤساء وزراء سابقون بعدم استقرار الأوضاع في العراق التي منعتهم من تنفيذ وعودهم بالتنمية، ولكن السؤال الذي ينبغي أن يُطرح: ما هو شكل الاستقرار المتحقّق في العراق اليوم، وما مدى صلابته وعمقه؟
المستوى الأولي للاستقرار حقّقته القدرات الأمنية العراقية، وملاحقتها للإرهاب وخلاياه، وهو ما جعل الحياة الليلية في بغداد والعديد من مدن العراق تعود إلى سابق عهدها، وتنتعش الأسواق والمطاعم والأماكن الترفيهية. ولكن هذه القدرات الأمنية الجبّارة تصاب بالشلل فوراً حين تعتدي جماعة مسلّحة على مطعم وتحطّم زجاجه وتروّع المواطنين، وتسجل كاميرات المراقبة وجوههم ونوع عجلاتهم وأرقامها، ثم لا يُلقى القبض على أيّ أحد.
يتوقف الاستقرار المتحقّق على مزاج الجماعات المسلّحة، فهي إن رغبت في الهدوء كان هدوءاً، وإن أرادت إقلاق الوضع العام فإنها تعيد الناس إلى بيوتهم خوفاً وفزعاً، بينما تتفرّج الجهات الأمنية ولا تحرّك إصبعاً ضدّها. وهذا أمرٌ يشهَد عليه المواطنون العاديون بصورة دائمة.
كان أحد أقاربي يعمل في الشرطة الاتحادية خلال أحداث العنف الطائفي ما بين 2005 و2007، وكان وقتها يقول لي، منزعجاً وحزيناً؛ إن وظيفتهم في تلك الفترة أنهم كانوا "جنّازة"، أي حاملي جثامين. فهم لا يقدرون على إنهاء العنف الطائفي، وإنما يكتفون بجمع جثث الضحايا من الشوارع وارسالها إلى مشرحة الطبّ العدلي.
للأسف، ما زالت هذه الوظيفة فاعلة، فحوادث قتل عديدة حصلت خلال هذا العام، وارتكبها أفراد ينتمون إلى جماعات مسلّحة، قيّدت ضدّ مجهول، وجاء رجال الشرطة وحملوا الجثث إلى المشرحة، وانتهى الموضوع.
النقطة العميقة في الاستقرار الضروري لأي تنمية هي بتحقّق الاستقرار المجتمعي، حين يرى كلّ مواطن، بغضّ النظر عن خلفيته الإثنية، أنه محمي من القانون، وأنه قادر على الترافع في محاكم الدولة لأخذ حقّه من المعتدين. ولا يكون هذا إلا بتفعيل القوانين الموجودة لا بإهمالها كما يجري اليوم، حيث تجرّم المادة 372 من قانون العقوبات العراقي من يعتدي على طائفة دينية أو يحرّض على الكراهية ضدّها. وينصّ الدستور العراقي على حماية حقوق الإنسان ومكافحة كل أشكال التمييز والعنف.
لم تحرّك الأجهزة التنفيذية العراقية ساكناً، وهي تشاهد، مع ملايين العراقيين، على مواقع التواصل الاجتماعي، كيف أن مجموعات تابعة لأحزاب مسلّحة قامت بجولات في الأعظمية عند مرقد أبي حنيفة وفي منطقة الشيخ عمر، قرب مرقد الكيلاني، وكذلك وسط الموصل، وكلها مناطق ذات غالبية سنيّة، وظلت هذه المجموعات تهتف بشعارات طائفية فيها تحقير واستفزاز عاليان، على هامش الاحتفالات بعيد الغدير.
الضرر الذي فعلته هذه الشعارات القبيحة، خصوصاً أنها تضخّمت وتوسّع تأثيرها في مواقع التواصل، يلغي سنوات من عمليات رأب الصدع بين المجموعات السكانيّة العراقية، ويجب على الحكومة العراقية ألّا تتجاهله وكأنه لم يحدُث. لأن تغذية الكراهيات يضرب في أسس الاستقرارالمجتمعي، ويغدو بعدها الحديث عن التنمية وجلب الاستثمارات وإقامة المشاريع الكبرى خالياً من المعنى.
القوانين والمواد الدستورية الجميلة والمهمة تبقى حبراً على ورق من دون إرادة وطنية لتفعيلها، وخير دليل على ذلك أن العراق كان قد وقّع على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في 18 فبراير/ شباط 1969، والذي يتعهد بحماية الحريات والحقوق المدنية والسياسية، ولكن العراق انحدر بعدها إلى مجازر تجاه المعارضين، خلال النصف الثاني من عقد السبعينيات ثم دخلنا في ثلاث حروب مدمّرة.