09 نوفمبر 2024
تفكيك أزمة "الربيع العربي"
بين بلدان "الربيع العربي" ومجتمعاتها، ثمّة ما يبدو "عاملاً مشتركاً"، ربما يمكن الاستفادة منه في تفسير المآلات غير الناجحة التي أفضت إليها تلك الثورات، على صعيد إنجازها تحولاً ديمقراطيّاً حقيقياً، يفضي إلى التخلص الكامل من الاستبداد، وهو الهدف الجوهري الذي قامت تلك الثورات من أجل تحقيقه. ذلك العامل المشترك لا يتمحور حول تشابهها في استيلاء العسكر على السلطة فيها، منتصف القرن العشرين، ثم حكمها بالفرد الملهم ومحاولات التوريث، وإنما في "الجوهر الثقافي" الذي يكاد يكون واحداً في سيرة مجتمعاتها منذ عقود طويلة، وأدى إلى إعاقة قيام تنظيماتٍ اجتماعيةٍ حقيقيةٍ فيها، كان وجودها ضرورياً لنجاح تلك الثورات. فتلك البلدان شهدت، منذ أواسط القرن التاسع عشر حراكاً اجتماعياً هائلاً، أساسه الانتقال من الريف إلى المدينة، وهمّه الانتقال من العمل في الحقول إلى العمل في الخدمات، وبعض الصناعات في المدن. ولمّا كانت هي بلداناً غير صناعية، فإن هذا التكدّس البشري الهائل في المدن الذي بدا واضحاً منذ منتصف القرن العشرين، لم يؤد دوراً إنتاجياً محموداً، إذ عمل المهاجرون في مجالات الخدمات والجيش والأمن والوظائف الحكومية والمشاريع الصغيرة، وهكذا لم تتوفر علاقات إنتاجٍ، يمكن أن تؤثر طبقياً على بنية المجتمع.
لم يكن ذلك الانتقال عديم الأثر، فقد ظهرت أشكال التنظيم والعلاقات المدنيّة تقريباً، بما فيها الأحزاب، لكن القضية الأساسية هي في مقدار تحول تلك التنظيمات إلى أدواتٍ حقيقيةٍ لتمثيل الناس، مقابل ذوبان صيغ التنظيم ما قبل المدنية.
يمكن القول إن هذا الانتقال الكبير هو الذي قاد إلى قيام نوع جديد من السلطة السياسية، عنوانه انقلاب العسكر، ومن ثم إلى مشاركة فئاتٍ جديدة في السلطة، هي أساساً التي وفدت حديثاً إلى المدن، وباتت تشكل أكثرية سكانها. وهذه الفئات نفسها هي التي سيطرت على أشكال التنظيم في المدن، بما فيها الأحزاب العقائدية التي صنعت التاريخ العربي منذ منتصف القرن العشرين، وهذا طبيعي، لأنه يندرج في عملية تحولٍّ تاريخيٍّ كبرى، وليس صحيحاً فهمه بأنه انتقال الريف، كما هو، إلى المدينة، لأنه في حقيقته جزء من مرحلة تاريخية عاشتها تلك البلدان، ظلت خلالها تبحث عن "النهضة"، نتيجة التأثر بأوروبا التي تحولت إلى مستعمر، وشعور مجتمعاتها بالتخلف تجاه هذا المستعمر المتحضر، وسعيها الدؤوب للحاق به.
وقاد هذا الانتقال الكبير، في أبرز نتائجه، إلى إحداثٍ تغيير ثقافي كبير في مجتمعات تلك البلدان التي باتت تتركّز أعدادها في المدن الكبرى، وخصوصاً العواصم، أساسه خلخلة قيم المجتمعات الريفية وأفكارها، بما يتناسب والحياة المدنية الجديدة. يبدو فهم الحالة الثقافية لتلك المجتمعات، حاسماً في فهم أزمة ثورات "الربيع العربي" بعد نجاحها في إطاحة أنظمة الاستبداد.
أهم ما يمكن قوله عن ثقافة هذه المجتمعات إنها غادرت أبويتها القديمة التقليدية، ولم تنجح في الوصول إلى ثقافةٍ مدنيّةٍ كاملةٍ، تقوم على حرية اختيار الفرد، إذ ظلت تجمع بين الاثنتين فيما يمكن اعتبارها حالة مرضية بيّنة، لأن سلوك تلك المجتمعات ظل يأخذ بمفاهيم الثقافة التقليدية في بعض سلوكه، وبمفاهيم المدنيّة في بعضه الآخر، وقد يأخذ بمفاهيم إحداهما في مظهر سلوكه وبمفاهيم الثانية في جوهره ومغزاه.
حدث هذا في وقت كانت فيه صيغ التنظيم الظاهرية لتلك المجتمعات حديثة، كأجهزة الدولة والسياسة والاقتصاد، غير أن عملية الانتقال التي لم تستطع إنجاز تحوّل كامل إلى الثقافة المدنية، لم تكن قادرة على إحداث الوعي الاجتماعي اللازم لانخراط الناس الكامل في صيغ مجتمعية حديثة، واعتبارها صيغاً نهائية لتنظيم نفسها، كون تلك المجتمعات لم تجد مصلحةً حقيقية في التخلي عن المفاهيم القديمة القائمة على الجماعية بشكل تام، والأخذ بالمفاهيم المدنيّة الجديدة بشكل عميق، ما دامت وسائل العمل و"الإنتاج" في المدن لم تُحدث تلك المصلحة.
هكذا قامت ثورات "الربيع العربي"، في لحظةٍ تاريخيةٍ فارقةٍ، ضاقت فيها الشعوب بالظلم والقهر والاستبداد والتمييز، من دون أن تتوفر على صيغ حديثة، تنظّم بها نفسها، لتتمكن من استكمال ثوراتها نحو الحرية والديمقراطية والعدالة، فكان طبيعياً أن تتعثر. والواقع أن المجتمعات الثائرة لم تفكر يوماً بضرورة تنظيم نفسها، لأنها ظلت تعلق أحلامها على الفارس المنقذ الذي سيجود به الزمان يوماً ما!
لم يكن ذلك الانتقال عديم الأثر، فقد ظهرت أشكال التنظيم والعلاقات المدنيّة تقريباً، بما فيها الأحزاب، لكن القضية الأساسية هي في مقدار تحول تلك التنظيمات إلى أدواتٍ حقيقيةٍ لتمثيل الناس، مقابل ذوبان صيغ التنظيم ما قبل المدنية.
يمكن القول إن هذا الانتقال الكبير هو الذي قاد إلى قيام نوع جديد من السلطة السياسية، عنوانه انقلاب العسكر، ومن ثم إلى مشاركة فئاتٍ جديدة في السلطة، هي أساساً التي وفدت حديثاً إلى المدن، وباتت تشكل أكثرية سكانها. وهذه الفئات نفسها هي التي سيطرت على أشكال التنظيم في المدن، بما فيها الأحزاب العقائدية التي صنعت التاريخ العربي منذ منتصف القرن العشرين، وهذا طبيعي، لأنه يندرج في عملية تحولٍّ تاريخيٍّ كبرى، وليس صحيحاً فهمه بأنه انتقال الريف، كما هو، إلى المدينة، لأنه في حقيقته جزء من مرحلة تاريخية عاشتها تلك البلدان، ظلت خلالها تبحث عن "النهضة"، نتيجة التأثر بأوروبا التي تحولت إلى مستعمر، وشعور مجتمعاتها بالتخلف تجاه هذا المستعمر المتحضر، وسعيها الدؤوب للحاق به.
وقاد هذا الانتقال الكبير، في أبرز نتائجه، إلى إحداثٍ تغيير ثقافي كبير في مجتمعات تلك البلدان التي باتت تتركّز أعدادها في المدن الكبرى، وخصوصاً العواصم، أساسه خلخلة قيم المجتمعات الريفية وأفكارها، بما يتناسب والحياة المدنية الجديدة. يبدو فهم الحالة الثقافية لتلك المجتمعات، حاسماً في فهم أزمة ثورات "الربيع العربي" بعد نجاحها في إطاحة أنظمة الاستبداد.
أهم ما يمكن قوله عن ثقافة هذه المجتمعات إنها غادرت أبويتها القديمة التقليدية، ولم تنجح في الوصول إلى ثقافةٍ مدنيّةٍ كاملةٍ، تقوم على حرية اختيار الفرد، إذ ظلت تجمع بين الاثنتين فيما يمكن اعتبارها حالة مرضية بيّنة، لأن سلوك تلك المجتمعات ظل يأخذ بمفاهيم الثقافة التقليدية في بعض سلوكه، وبمفاهيم المدنيّة في بعضه الآخر، وقد يأخذ بمفاهيم إحداهما في مظهر سلوكه وبمفاهيم الثانية في جوهره ومغزاه.
حدث هذا في وقت كانت فيه صيغ التنظيم الظاهرية لتلك المجتمعات حديثة، كأجهزة الدولة والسياسة والاقتصاد، غير أن عملية الانتقال التي لم تستطع إنجاز تحوّل كامل إلى الثقافة المدنية، لم تكن قادرة على إحداث الوعي الاجتماعي اللازم لانخراط الناس الكامل في صيغ مجتمعية حديثة، واعتبارها صيغاً نهائية لتنظيم نفسها، كون تلك المجتمعات لم تجد مصلحةً حقيقية في التخلي عن المفاهيم القديمة القائمة على الجماعية بشكل تام، والأخذ بالمفاهيم المدنيّة الجديدة بشكل عميق، ما دامت وسائل العمل و"الإنتاج" في المدن لم تُحدث تلك المصلحة.
هكذا قامت ثورات "الربيع العربي"، في لحظةٍ تاريخيةٍ فارقةٍ، ضاقت فيها الشعوب بالظلم والقهر والاستبداد والتمييز، من دون أن تتوفر على صيغ حديثة، تنظّم بها نفسها، لتتمكن من استكمال ثوراتها نحو الحرية والديمقراطية والعدالة، فكان طبيعياً أن تتعثر. والواقع أن المجتمعات الثائرة لم تفكر يوماً بضرورة تنظيم نفسها، لأنها ظلت تعلق أحلامها على الفارس المنقذ الذي سيجود به الزمان يوماً ما!