صناعة الزعيم في العراق

10 سبتمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

يتأثر الناس في العراق بالانجازات، وجزء من تراجع شعبية صدّام حسين في التسعينيّات أنّه صار مُقيَّد اليد، ولم يعد يستطيع الإنفاق بسخاءٍ مثلما كان يفعل في السبعينيّات والثمانينيّات. والسبب الأبرز في أنّ الناس كانت تتمنّى زوال نظامه أنّها كانت تريد رفع العقوبات الاقتصادية الخانقة، وربّما كانت الدبّابات الأميركية المُتقدّمة باتجاه بغداد، في شتاء 2003 وربيعه، أسرع من خطط النظام في ذلك الوقت لتصفية ملفّ التزاماته مع الأمم المُتّحدة، وهو ما تحرّك به على عجلٍ في أواخر عام 2002، بعد فوات الأوان.
لو نجح صدّام في تخفيف العقوبات الاقتصادية، وفي إنعاش الاقتصاد العراقي، لاستطاع إعادةَ بناء سمعته في الداخل. كان قرار تأميم شركات النفط في العراق في 1972، ثمّ الزيادة العالية في أسعار النفط إثر أزمة حرب 1973، بسبب قرار الدول العربية حظر تصدير النفط للضغط على الدول الغربية لإجبار إسرائيل على الانسحاب من الأراضي المحتلة في 1967، بالإضافة إلى الاستثمار في البنى التحتية النفطية وتوسيع كفاءة المنشآت النفطية العراقية، هذه العوامل كلّها ضخّمت من الموارد في يد الحكومة العراقية التي كان يشغل صدّام حسين فيها منصب نائب الرئيس في تلك الأوقات. غالبية الناس لم ينشغلوا كثيراً بتقييد الحرّيات السياسية، ولا بالاعتقالات أو بالملاحقات الأمنية، وكانوا يشعُرون بأنّهم يعيشون في العصر الذهبي للعراق الحديث، بسبب الانفاق الهائل على البنى التحتيّة والمرتّبات ومختلف القطاعات الحيوية.
تكرّر الشيء نفسه مع تولّي نوري المالكي رئاسةَ الوزراء دورتين (2006 – 2014)، إذ تجاوزت أسعار النفط في وقتها حاجز المائة دولار، بالإضافة إلى زيادة الإنتاج النفطي في العراق، مع بدء جولات التراخيص للاستثمارات الأجنبية، وما زال جزءٌ من شعبية المالكي مديناً للإنفاق الذي بذله في تلك الفترة، ليس في قطاعات التنمية والبنى التحتية فقط، وإنّما لشراء الولاءات السياسية أيضاً.
يميل النظام الريعي الأحادي، الذي يراكم الثروة في أيدي السلطة التنفيذية، إلى إنتاج زعاماتٍ من نوعي صدّام حسين ونوري المالكي وغيرهما، وتواجه الأحزاب والتيّارات السياسية المنافسة صعوبةً في مواجهة هذا النوع من الزعامات الصاعدة على أموال الريع، لأنّه، حتّى مع اعتماد شرعية صناديق الاقتراع والانتخابات الديمقراطية، فإنّ نجاح متولّي السلطة التنفيذية في تحقيق تنمية، وإنْ بحدود دنيا، سيرفع من رصيده الشعبي، بما يُغطّي غيره من المنافسين الذين يعرفون أنّ المواهب الشخصية ليست المُحدّد الأساسي في صناعة الزعيم في العراق، وإنّما هالة السلطة والانفاق الحكومي السخي.
إنّها المعضلة التي يواجهها أقطاب تحالف الإطار التنسيقي (الشيعي) اليوم مع رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، فقد كانوا يُعوّلون، في بداية تولّيه منصبه، على أن ينجح في كسب ودّ الشارع العراقي الناقم عليهم، والمُشكّك أصلاً في شرعيتهم السياسية، ولكنّ نجاحه يبدو أنّه لم يصبَّ بمنافعه في خزائنهم السياسية. ويشعر قادة "التنسيقي" بأنّه ألقى بهم خلف ظهره، وهو ماضٍ في ترتيب أوراق ولايته الثانية.
يتأثر عراقيون كثيرون بإنجازات البنية التحتية في الطرق والجسور التي يعمل عليها السوداني، كذلك يُقدّرون أنّه من سياسيّي الداخل، ولم يأتِ مع الاحتلال، وأنّ لديه تاريخاً وظيفياً مهنياً، فهو ابن المؤسّسة البيروقراطية العراقية، وليس مُجرَّد سياسيٍّ بقفَّازات بيضاء. كما أنّ لهيئته ومنطقه البسيط والمتواضع تأثيرا يبعث على الثقة. وهذه كلّها ستفعل فعلها مع صناديق الاقتراع في انتخابات 2025، بغضّ النظر عن رأي النُخْبَة النقديّ في سياسات السوداني، ومدى استقلاليته أو حدود قدرته على الإنجاز والعمل.
وفي حال نجا السوداني من المحاولات الحالية لإضعافه وتحجيم حركته من قوى "الإطار التنسيقي"، فالمُرجَّح أن يكتسح الأصوات في الانتخابات المقبلة.