لا أزال أتذكّر تلك اللحظة جيداً، لأنّها كانت فارقة في حياتي، ليس من الناحية التاريخية وتقييدها زمنياً، أو من خلال إسنادها إلى حدثٍ عابر، سرعان ما ينسلّ من الخيال، بل لأنّها نقش في الذاكرة، ونحت عميق تصعب إزالته، أو إزاحة خطوطه المتشابكة الملتفة حوله.
لذا، بات لزاماً عليّ أنْ أفتّش في برامج وكاتالوغات الأحداث والمهرجانات السينمائية عن أي عمل لديه علاقة بفلسطين، لأنّها الوسيلة الوحيدة التي أجدها مناسبة لفهم الفرد الفلسطيني، والطريقة الأنجع التي تزيح الفوارق والوساطات، وتجعلني في التحامٍ مباشر مع الأرض، تلك البقعة المُغتَصبة والمُدنّسة بالأقدام السوداء التي لا تحبّ إلّا نفسها، تلغي الآخر وتحاول دائماً أنْ تُبيده وتمحوه من الخريطة والذاكرة.
لكنْ، هناك، في مكان ما، في الداخل أو الخارج، في البُقع المُحرّرة أو المحتلّة، نشيدٌ يُتلى بصوت عال، وقلبٌ يئنّ سرّاً وجهراً، وحسرة مُرتَسمة على كلّ وجهٍ ينشد الحرية ويتوق لها. هذه معطيات محورية وأساسية، أجدها بشكل مستمر في تلك الأفلام التي أتتبعها وأنحاز إليها بشكل صارخ، لأنّها البوصلة التي ترشدني إلى معاقل الفهم الجيّد.
لكنّ ذلك الفيلم بالتحديد رَسَم أمامي بُعداً مُغايراً، وعَبّد لي الطريق، حتّى أغوص أكثر في أعماق هذا الفن، وفي أغوار تلك الأرض المُغتَصبة. إنّه الفيلم الروائي الطويل "عرس الجليل" (113 دقيقة، 1987) لمخرجه ومبتكره وراسم أبعاده الفنية ميشيل خليفي (1950)، الذي صنع به لحظة فارقة في مدوّنة السينما الروائية الفلسطينية، وأشرع الباب واسعاً لكلّ صنّاع الأفلام، لينسجوا ويحلموا ويتقدّموا صوب هذا الجنس السينمائي المختلف عن السينما التسجيلية التي عُرفت بها السينما الفلسطينية.
إضافة إلى موضوعه الذي ذهب به في اتّجاهات عدّة، وبكلّ شجاعة، ليكون الفيلم مشتلة متنوّعة لركائز وأسس كثيرة صنعت الهوية الفلسطينية، بأبعادها الحضارية والتاريخية والثقافية. أكثر من هذا كلّه، أظهر "عرس الجليل" الوجه القبيح للمُحتلّ الغاشم، الذي عَمل على محو الهوية وسحقها بكلّ قوة، إذْ تصيّد ميشيل خليفي أبعاداً مهمّة في تلك الفترة التاريخية الفارقة في حياة كلّ فلسطيني وعربي، ولدى كلّ انسان وقف ويقف في وجه الظلم والاستبداد.
فترة منقوشة في كلّ قلب، تجلّت في ما بعد النكبة وما قبل النكسة، أي في الفترة التاريخية بين عامي 1984 و1967، وكانت حُبلى بالمآسي والمظالم والسحق والقتل والتنكيل والحرمان والتهجير والنفي للإنسان الفلسطيني.
"عرس الجليل" بالنسبة إليّ كالبطاقة البريدية، التي تُقدَّم لك كتسبيقةٍ على ما يُمكن رؤيته في ذلك البلد. كأنّه طُعم يقودك إلى عوالم جديدة، لم تكن على دراية سابقة بها، خاصة أنّ منطلق السينما الفلسطينية كان دفاعياً ومُقاوِماً بالدرجة الأولى، تنتصر للوثائقية التي تحبس اللحظات التاريخية للمقاومة وتُسجّلها سينمائياً، وتستعرض من خلالها عملياتها ونشاطاتها، وتوثّق جرائم المحتل. أما السينما الروائية، فكانت ترفاً زائداً عن الحاجة، لم تمنعها (أي الجهات الفلسطينية)، لكنّها لم تدعمها، ولم تُشجّع عليها كما ينبغي.
عندما ذهب خليفي بـ"عرس الجليل" إلى السينما الروائية، قدّم للقضية الفلسطينية أشياء كثيرة لم تقدر السينما التسجيلية على تقديمها، إضافة إلى توسيع دائرة الجمهور الذي عرف، من خلال هذا العرس، ماهية فلسطين بعيداً عن دعاية المُحتلّ. مشاهدتي "عرس الجليل" جاءت متأخّرة نوعاً ما، ليس بسنوات قليلة، بل طويلة فاصلة عن سنة العرض الأول، وهذا لأسباب عدّة. لكنّ الفرق الزمني لم يُسقط شروط التلقّي، ولم يُذب شحنات لذّة المُشاهدة، وربما هذا التأخّر غير المقصود ساهم في اتّساع شروط المُشاهدة، ودَلّ على أنّ الفيلم الجيد لا يُمكن أنْ يصدأ.
كما أنّي شاهدت قبله وبعده أفلاماً فلسطينية كثيرة، وما تركه هذا الفيلم من أثر لم يبلغه غيره، لأنّ خليفي أجاد نسج أحداثه، وتعامل مع القضية الفلسطينية بطريقة عميقة ومهمة، ابتعد فيها عن الخطابية واللغة الخشبية، وقدّم فلسطين بألوانها الأساسية، وأظهر المحتل بلونه الأسود القاتم، الذي استحقّه.
تتلخّص القصة بالتالي: مواطن فلسطيني في الجليل يتقدّم من الحاكم العسكري الإسرائيلي بطلب تصريح لإقامة حفل زفاف ابنه، فيشترط الحاكم العسكري أنْ يحضر الحفل هو ورجاله. يوافق والد العريس، وتدور بقية الأحداث في العرس.
انطلاقاً من هذه القصة، وزّع ميشيل خليفي (مخرج الفيلم وكاتب القصّة والحوار والسيناريو) الأحداث في زوايا عدّة، مُحيطاً كلّ زاوية بمعطيات ثاقبة، خدمت القضية بشكل ما. أبرز المعمار والعادات والتقاليد الفلسطينية بشكل جلي، وأسقط سردية المحتلّ، الذي قال إنّه وجد الأرض جرداء، يقطنها شعبٌ همجي وغير مُتحضّر، يتنقّل من مكان إلى آخر.
وظّف خليفي المعمار في تفاصيل الفيلم لقصم هذه السردية، وبيّن التفاصيل التي تصنع تلك الهوية، بإقامة عرس عادل (نزيه عقله) على عروسه سامية (آنا كوندو)، إذْ سمح العرس/ المُسبّب في استبيان الطقوس التي تعكس العادات والتقاليد، أي التراث المادي واللامادي، ومنها كيفية التعامل مع العروسين، ولباسهما، وحُليّ العروس، وكيفية إقامة الحفل، والتعامل مع المدعوين، والرقص، والعلاقة بين الأسرة والأفراد، وغيرها من المعطيات المهمّة.
من جهة أخرى، لم يرضَ خليفي أنْ يكون فيلمه مجرّد ديكور يستعرض تلك المعطيات، بل انتقد المجتمع الرجعي والمتخلّف، الذي ما زال يتعامل بمنطق الأبوّة والقبيلة، ويتعامل مع المرأة كأنّها سقط متاع، لا تملك سلطة قرارها. لهذا، صنع مواجهات عدّة للتنبيه إلى تلك العادات البائدة، التي لا تخدم القضية الفلسطينية في شيءٍ. أكثر من هذا، تسيء إلى الفرد الفلسطيني كإنسان، قبل كلّ شيء. ورغم سلبيتها، تبقى هذه المعطيات جزءاً صَنع الهوية الفلسطينية بشكل ما.
كما أنّ خليفي لم يفوِّت الفرصة، فاقتنص لحظات مهمّة أظهر فيها عنجهية المحتلّ، الذي فرض عمليات حظر التجوّل على الفلسطينيين، وحرمهم من أبسط حقوقهم في التنقّل وعيش حياة عادية، وأظهر عدم إنسانيّته وإجرامه في حقّ الأرض التي احتلّها وزرعها بالمتفجّرات، حتى لا يسمح لأي فرد بالتنقّل.
ووسط هذا كلّه، أظهر خليفي تحكّمه الكامل في الموضوع الذي طرحه، والغاية من كلّ توظيف قام به. لهذا، جاء الفيلم مشبعاً بالرمزيات والإشارات القوية التي خدمته فنياً، وهذا انعكس في البناء والتصوير (والتر فان دير إنده) الذي أغناه بلقطات بانورامية تُظهر جمال فلسطين وتنوّعها الطبيعي.
رمزياً، أشبع مَشاهد فيلمه بأشجار الزيتون، ما يوحي بأنّ الشعب الفلسطيني ابن هذه الأرض، وليس أدلّ على ذلك مما غرسه وتركه الأجداد. "عرس الجليل" مفتاح أساسي أخذني بقوّة إلى السينما الفلسطينية، وجعلني اكتشف أشياء كثيرة مخبوءة، وأتيقّن أنّ السينما أحد الأركان المهمّة في ترسيخ فكرة فلسطين في الوجدان العالمي، وإظهارها على أنّها أرض مُغتَصَبة من مُحتلّ لا يحمل أي قيمة حضارية أو إنسانية، ويحاول بشتّى الطرق أنْ يضع نفسه بديلاً عن أصحاب الأرض الحقيقيين.
لكنّ المقاومة المستمرة والمتنوّعة تقف في وجه مشاريعه العنصرية والاستئصالية، والسينما إحدى وسائل المقاومة، لتقريب العالم من الحقيقة المغيّبة.